10.سبحانك ربي وبحمدك

*

سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا علي عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفرلي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وأستغفرك فاطر السماوات والأرض أنت وليِّ في الدنيا والآحرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين

Translate

الاثنين، 28 أبريل 2025

كتاب : الأمثال في القرآن الكريم المؤلف : محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية


كتاب : الأمثال في القرآن الكريم
المؤلف : محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية
الأمثال في القرآن بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير البرية محمد وآله وصحبه أجمعين قال شيخنا رحمه الله وقع في القرآن أمثال وان أمثال (1) القرآن لا يعقلها إلا العالمون وأنها شبيه (2) شئ بشئ في حكمه وتقريب المعقول من المحسوس أو أحد المحسوسين من الأخر واعتبار أحدهما بالآخر كقوله تعالى في حق المنافقين: (ومثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت وسلم ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يصبرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم - إلى قوله - إن الله على كل شئ قدير) (3) فضرب للمنافقين بحسب حالهم


مثلين مثلا ناريا (4) ومثلا مائيا لما في الماء والنار (5) من الإضاءة والإشراق والحياة فإن النار مادة النور والماء مادة الحياة وقد جعل الله سبحانه الوحي الذي أنزل من السماء متضمنا لحياة القلوب واستنارتها ولهذا سماه روحا ونورا (6) وجعل قابليه أحياء في النور ومن لم يرفع به رأسا أمواتا في الظلمات، وأخبر عن حال المنافقين بالنسبة إلى حظهم من الوحي أنهم بمنزلة من استوقد نارا لتضئ له وينتفع بها وهذا لأنهم دخلوا في الإسلام، فاستضاءوا به وانتفعوا به
__________
(1) شيخنا هو الامام ابن القيم وهذه العبارة من كلام أحد تلامذة ابن القيم [ والمثل بالكسر والتحرك ومنه (مثل الجنه التى...) ] انظر ترتيب القاموس المحيط ح 4 / 203.
(2) في م، ع (فأنا تشبيه).
(3) سورة البقرة: 17 - 20.
(4) الزيادة من م، ع.
(5) إشارة إلى الايه (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا...) الشورى 52 / 53.
(6) المراد بالروح القرآن والنور هو الوحى القرآني انظر الشورى: 52.



تشبيه الكفار بالمطر المصاحب للظلمة والرعد والبرق وآمنوا به وخالطوا المسلمين ولكن لما لم يكن لصحبتهم (7) مادة من قلوبهم من نور الإسلام طغى عنهم وذهب الله بنورهم.
ولم يقل نارهم فإن النار فيها الإضاءة والإحراق فذهب الله بما فيها من الإضاءة وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق وتركهم في ظلمات لا يبصرون فهذا حال من أبصر ثم عمي وعرف ثم أنكر ودخل في الإسلام ثم فارقه بقلبه لا يرجع إليه ولهذا قال (8): (فهم لا يرجعون).
ثم ذكر حالهم بالنسبة إلى المثل المائي فشبههم بأصحاب صيب وهو المطر
الذي يصوب أي ينزل من السماء (9) فيه ظلمات ورعد وبرق فلضعف بصائرهم وعقولهم اشتدت عليهم زواجر القرآن ووعيده وتهديده وأوامره ونواهيه وخطابه الذي يشبه الصواعق فحالهم كحال من أصابه مطر فيه ظلمة ورعد وبرق فلضعفه وخوفه (10) جعل أصبعيه في أذنيه خشية من صاعقة تصيبه وقد شاهدنا نحن وغيرنا كثيرا من مخانيث تلاميذ الجهمية (11) والمبتدعة إذا سمعوا شيئا من آيات الصفات وأحاديث الصفات المنافية لبدعتهم رأيتهم عنها معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، ويقول مخنثهم: سدوا عنا هذا الباب، واقرأوا شيئا غير هذا وترى قلوبهم مولية وهم يجمحون لثقل معرفة الرب سبحانه تعالى وأسمائه وصفاته على عقولهم وقلوبهم وكذلك المشركون على اختلاف شركهم إذا جرد لهم التوحيد وتليت عليهم نصوصه (12) المبطلة
__________
(7) في ع (ولكن ستصحبهم).
(8) في ع (قال فيههم).
(9) (أنا صببنا الماء صبا) انظر تفسير النسفى 1 / 26، ومفردات الراغب 228.
(10) الضمير يعود للمنافقين (وخوره) من ع.
(11) وابن القيم كتابه القيم الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة وانظر مقالات الاسلامين للاشعري...(12) من م (النصوص).



الماء الذي به الحياة لشركهم اشمأزت قلوبهم وثقل (13) عليهم لو وجدوا السبيل إلى سد آذانهم لفعلوا وكذلك (14) نجد أعداء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقل ذلك عليهم جدا فأنكرته قلوبهم وهذا كله شبه ظاهر ومثل محقق من اخوانهم من المنافقين في
المثل الذي ضربه الله لهم بالماء فإنهم لما تشابهت قلوبهم تشابهت أعمالهم (15) فصل: وقد ذكر سبحانه المثلين المائي والناري في سورة الرعد ولكن في حق المؤمنين فقال تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله...) (16) شبه الوحي الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات وشبه القلوب بالأودية (17) فقلب كبير يسع علما عظيما كواد كبير يسع ماء كثيرا وقلب صغير إنما يسع بحسبه كالوادي الصغير فسالت أودية بقدرها واحتملت قلوب من الهدى والعلم بقدرها كما أن السيل إذا خالط الأرض ومر عليها احتملت (18) غثاء وزبدا فكذلك الهدى والعلم إذا خالط القلوب أثار ما فيها من الشهوات والشبهات ليقلعها ويذهبها كما يثير الدواء وقت شربه من البدن أخلاطه فتكرب (19) عنه بها شاربه وهي من تمام نفع الدواء فانه أثارها ليذهب بها فإنه لا يجامعها ولا يساكنها وهكذا (يضرب الله الحق والباطل) ثم ذكر المثل
__________
(13) من م (وثقلت).
(14) من م (ولذلك).
(15) يعنى بذلك الرافضة وهم غلاة الشيعة الذين يؤذون رسول الله بكراهية أصحابهه وسبهم.
(16) الرعد: 17.
(17) الامثال في الكتاب والسنة: 19.
(18) من م (احتمل).
(19) من م (فيتكرر) وكربت الارض قلبهما للحدث مختار الصحاح ص 566.



الناري فقال: (ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد
مثله) (20) وهو الخبث الذي يخرج عند سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد (21) فتخرجه النار وتميزه وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به فيرمى ويطرح ويذهب جفاء فكذلك الشهوات والشبهات يرميها قلب المؤمن ويطرحها ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزبد والغثاء والخبث ويستقر في قرار الوادي الماء الصافي الذي يسقي (22) منه الناس ويزرعون ويسقون أنعامهم كذلك يستقر في قرار القلب وجذره الإيمان الخالص الصافي الذي ينفع صاحبه وينتفع به غيره (23) (ومن لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما والله الموفق.
فصل: ومنها قوله تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) (24) شبه سبحانه الحياة الدنيا في أنها تتزين في عين الناظر فتروقه بزينتها وتعجبه (25) فيميل إليها ويهواها اغترارا منه بها حتى إذا ظن أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة (26) أحوج ما كان إليها وحيل بينه وبينها فشبهها
__________
(20) الرعد: 17.
(21) تفسير النسفى 2 / 247، الطبري: 14 / 136.
(22) من م، ع (يستقى).
(23) انظر تفسير الطبري 14 / 134، النسفى 2 / 247 وابن كثير 2 / 508 انظر مختار الصحاح ص 509.
(24) يونس: 24.
(25) في ع (فيروقه تزينها ويعجبه).
(26) إما بالموت وهذا ظاهر وإما بمرض ينزل بالمرء فلا يستفيد بها أو بآفة تجتاحها وتزيلها.



بالأرض الذي ينزل الغيث عليها فتعشب ويحسن نباتها ويروق منظرها للناظر فيغتر به ويظن أنه قادر عليها مالك لها فيأتيها أمر الله فتدرك نباتها الآفة بغتة فتصبح كأن لم تكن قبل فيخيب ظنه وتصبح يداه صفرا منهما فهكذا (27) حال الدنيا والواثق بها سواء، وهذا من أبلغ التشبيه والقياس.
فلما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات والجنة سليمة منها قال تعالى تعالى: (والله يدعوا إلى دار السلام) (28) فسماها هنا دار السلام لسلامتها من هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا فعم بالدعوة إليها وخص بالهداية من شاء فذلك عدله وهذا فضله (29).
فصل: ومنها قوله تعالى: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون) (30) فإنه سبحانه وتعالى ذكر الكفار ووصفهم بأنهم ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ثم ذكر المؤمنين ووصفهم بالإيمان والعمل الصالح والإخبات إلى ربهم فوصفهم بعبودية الظاهر وبالباطن جعل أحد الفريقين كالأعمى والأصم من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية الحق أصم عن سماعه فشبهت (31) بمن بصره أعمى عن رؤية أحق الأشياء (32) وسمعه أصم عن سماع الأصوات والفريق الآخر بصير القلب سميعه كبصير العين وسميع الأذن فتضمنت الآية قياسين وتمثيلين للفريقين ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله (هل يستويان مثلا) (33) فصل: ومنها قوله تعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت) (34) فذكر سبحانه إنهم ضعفاء وأن الذين اتخذوهم أولياء
__________
(27) في م (فكذا).
(28) يونس: 25
(29) معترك الاقران 1 / 467 وابن كثير 2 / 413، والنسفي 2 / 159 والطبري 11 / 102.
(30) هود: 24.
(31) في م (فشبهه).
(32) في م، ع (رؤية الاشياء).
(33) هود: 24 انظر تفسير الطبري 12 / 25 وغرائب القرآن 11 / 17.
(34) العنكبوت: 41.



أضعف منهم فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتا وهو أوهن البيوت وأضعفها (35) وتحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حيث اتخذوا من دون الله أولياء فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفا كما قال تعالى: (واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا.
كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) (36)، وقال تعالى: (واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون.
لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون) (37) وقال بعد أن ذكر هلاك الأمم المشركين: (وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شئ لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب)) (38)، فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون الله وليا يتعزز به ويتكثر به ويستنصر به لم يحصل له به إلا ضد مقصوده وفي القرآن أكثر من ذلك، وهذا من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده.
فإن قيل فهم (39) يعلمون أن أوهن البيوت بيت العنكبوت فكيف نفى عنهم علم ذلك بقوله: (لو كانوا يعلمون).
فالجواب أنه سبحانه لم ينف (40) عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت وإنما نفى علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتا فلو علموا ذلك لما فعلوه، ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزا وقوة فكان الأمر بخلاف ما ظنوا (41).
__________
(35) في ع (فانهم).
(36) مريم: 81: 82.
(37) يس: 74، 75.
(38) هود: 101.
(39) في ع (فانهم).
(40) في الاصل (ينفى) والواجب حذفها.
(41) انظر الجمان 186 - الامثال 27 - 28 وتفسير ابن كثير 3 / 314 والطبري 20 / 152، 153.

فصل: ومنها قوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) (42) ذكر سبحانه للكافرين مثلين مثلا بالسراب ومثلا بالظلمات المتراكمة وذلك لأن المعرضين عن الهدى والحق نوعان أحدهما من يظن أنه على شئ فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه وهذه حال أهل الجهل وأهل البدع والأهواء الذين يظنون أنهم على هدى وعلم فإذا انكشفت الحقائق
تبين لهم أنهم لم يكونوا على شئ وأن عقائدهم (43) وأعمالهم (44) التي ترتبت عليها كانت كسراب يرى في أعين (45) الناظرين ماء ولا حقيقة له وهكذا الأعمال (46) التي لغير الله عز وجل وعلى غير أمره يحسبها العامل نافعة له (47) وليست كذلك وهذه هي الأعمال التي قال الله عز وجل فيها: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا (48))، وتأمل جعل الله سبحانه السراب بالقيعة وهي الأرض الخالية القفر من البناء والشجر
__________
5 (42) النور: 39 / 40.
(43) يقصد الجهمية.
(44) قوله (ترتبت عليها...) عليها الضمير يعود على أهل الجهل والبدع الذين يظنون أنهم على هدى ونور.
(45) في م (كسراب بقيعة يرى في عين...).
() الاعمال التى ليست مطابقة لاوامر الله ويحسبها فاعلها أنها نافعة كاعمال أهل البدع والاهواء فلجهلهم يظنون أنها نافعة وفى الحقيقة أنها لا خير فيها.
(7) الزيادة من م.
(48) الفرقان: 24.



والنبات (49) والعالم فمحل السراب أرض قفر لا شئ (50) بها والسراب لا حقيقة له وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى، وتأمل ما تحت قوله (يحسبه الظمآن ماء والظمآن) (51) الذي اشتد عطشه فرأى السراب فظنه ماء فتبعه فلم يجده شيئا بل خانه أحوج ما كان إليه فكذلك هؤلاء لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسل (52) عليهم الصلاة والسلام ولغير الله جعلت كالسراب فرفعت لهم أظمأ ما كانوا إليها (53) فلم يجدوا شيئا
ووجدوا الله سبحانه (54) ثم فجازاهم بأعمالهم ووفاهم حسابهم، وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري (55) رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث التجلي يوم القيامة (ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها السراب فيقال لليهود وما كنتم تعبدون ؟ فيقولون كنا نعبد عزيرا ابن الله فيقال: كذبهم لم يكن لله صاحبة ولا ولد فما تريدون ؟ قالوا: نريد أن تسقينا فيقال اشربوا فيتساقطون في جهنم ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال: كذبتم ما كان لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون ؟ فيقولون: أن تسقينا فيقال لهم: اشربوا فيتساقطون، وذكر الحديث (56) وهذه حال كل صاحب باطل فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه فإن الباطل لا حقيقة له وهو كإسمه باطل فإذا كان الاعتقاد غير مطابق ولا حق كان متعلقه باطلا وكذلك إذا كانت غاية العمل باطلة (57) كالعمل لغير الله عز وجل أو على غير أمره بطل
__________
(49) العالم في هذه الجملة زائدة والصواب (والنبات فمحل السراب أرض القفر).
(50) في ع (فيها).
(51) النور: 39.
(52) في م (الرسل).
(53) في م، ع (أظمأ ما كانوا وأحوج ما كانوا إليها).
(54) مقتبسة من قولة تعالى (ووجد الله عنده فوفاه حسابه) النور: 39.
(55) هو سعد بن مالك بن سنان الخدرى بايع تحت الشجرة.
وشهد ما بعد أحد انظر الاصابة لابن حجر 3 / 414.
(56) البخاري كتاب التوحيد 4 / 201 ومسند أحمد 3 / 16 / 17.
(57) يعنى الاعمال.



العمل ببطلان غايته وتضرر عامله ببطلانه وبحصول ضد ما كان يؤمله فلم يذهب عليه عمله واعتقاده لا له ولا عليه بل صار معذبا بفوات نفعه وبحصول ضد النفع فلهذا قال تعالى (ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب) (58) فهذا مثل الضال الذي يحسب (59) أنه على هدى.
فصل: النوع الثاني أصحاب مثل الظلمات المتراكمة وهم الذين عرفوا الحق والهدى وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال فتراكمت عليه ظلمة الطبع وظلمة النفوس وظلمة الجهل حيث لم يعلموا بعلمهم فصاروا جاهلين وظلمة اتباع الغي والهوى فحالهم كحال من كان في بحر لجي لا ساحل له وقد غشيه موج ومن فوق ذلك الموج (60) موج ومن فوقه سحاب مظلم فهو في ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة السحاب وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه الله منها إلى نور الإيمان، وهذان المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة وهو الماء والظلمات المضادة للنور نظير المثلين اللذين ضربهما للمنافقين والمؤمنين وهما المثل المائي والمثل الناري (61) وجعل حظ المؤمنين منهما الحياة والإشراق وحظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور والموت المضاد للحياة فكذلك الكفار في هذين المثلين حظهم من الماء السراب الذي يغرر الناظر فيه (62) ولا حقيقة له وحظهم الظلمات المتراكمة وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار وأنهم عدموا مادة الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي فيكون المثلان صفتين لموصوف واحد ويجوز أن يكون المراد به تنويع (63) أحوال الكفار وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا
__________
(58) النور: 39.
(59) في ع (يحسب: يحسب عمله).
(60) كررنا (موج) لم تكون في الاصل.
(61) تفسير ابن كثير 3 / 296.
(62) في م، ع (يغر الناظر).
(63) في ع (متنوع).



على غير علم ولا بصيرة بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا وأصحاب المثل الثاني هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى وآثروا الباطل على الحق وعموا عنه بعد إذ أبصروه وجحدوه بعد أن عرفوه فهذا حال المغضوب عليهم والأول حال الضالين وحال الطائفتين مخالف لحال المنعم عليهم المذكورين في قوله تعالى: (الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة إلى قوله (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب (64) فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة المنعم عليهم وهم أهل النور والضالين وهم أصحاب السراب والمغضوب عليهم وهم أهل الظلمات المتراكمة والله أعلم.
فالمثل الأول من المثلين لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع، (65) فأولئك أصحاب العمل الباطل وهؤلاء أصحاب العمل الذي لا ينفع والاعتقادات الباطلة وكلاهما مضاد للهدى ودين الحق ولهذا مثل حال الفريق الثاني في تلاطم أمواج الشكوك والشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم بتلاطم أمواج البحر فيه وأنها أمواج متراكمة من فوقها سحاب مظلم وهكذا أمواج الشكوك والشبه في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سحب الغي والهوى والباطل فليتدبر اللبيب أحوال الفريقين وليطابق بينهما وبين المثلين يعرف عظمة القرآن وجلاله وأنه تنزيل من حكيم حميد.
وأخبر سبحانه أن الموجب لذلك
أنه لم يجعل لهم نورا (66) بل تركهم على الظلمة التي خلقوا فيها فلم يخرجهم منها إلى النور فإنه سبحانه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر (67) رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(64) النور: 38.
انظر تفسير الكشاف ص 67.
(65) سقط من الطبع (والمثل الثاني لاصحاب العلوم والنظرو الابحاث الذى (التى) لا تنفع).
(66) راجع تفسير الكشاف 3 / 67.
(67) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوى أبو عبد الرحمن راجع تجريد أسماء الصحابة للذهبي ج 1 / 325.

قال: (إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل) (68) فلذلك أقول جف القلم على علم الله فالله سبحانه خلق الخلق في ظلمة فمن أراد هدايته جعل له نورا وجوديا يحيى به قلبه وروحه كما يحيى بدنه بالروح التي ينفخها فيه فهي (69) حياتان حياة البدن بالروح وحياة الروح والقلب بالنور ولهذا سمى الله الوحي روحا لتوقف الحياة الحقيقية عليه كما قال تعالى: ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده) (70) وقال: (يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده) (71) وقال: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) (72) فجعل وحيه روحا ونورا فمن لم يحيه بهذا الروح فهو ميت ومن لم يجعل له نورا منه فهو في الظلمات ماله من نور) (73) فصل: ومنها قوله تعالى: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) (74) فشبه أكثر الناس بالأنعام
والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والانقياد له وجعل الأكثرين أضل سبيلا من الأنعام لأن البهيمة يهديها سائقها فتهتدي وتتبع الطريق (75) فلا تحيد عنها يمينا ولا شمالا والأكثرون يدعونهم الرسل ويهدونهم السبيل فلا
__________
(68) المسند 2 / 176 وسنن الترمذي 38 باب 18 ومستدرك الحاكم وضعفه السيوطي.
(69) في م، ع (فهما).
(70) النحل: 2.
(71) غافر: 15.
(72) الشورى: 52.
(73) انظر الامثال 26: 27، الجمان 177 - 180، تفسير الطبري 18 / 148 وابن كثير 2 / 296.
(74) الفرقان: 44.
(75) راجع تفسير الكشاف ح 3 / 94.

يستجيبون ولا يهتدون ولا يفرقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم والأنعام تفرق بين ما يضرها من النبات والطريق فتجتنبه وما ينفعها فتؤثره والله تعالى لم يخلق للأنعام قلوبا تعقل بها ولا ألسنة تنطق بها (76) وأعطى ذلك لهؤلاء ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار فهم أضل من البهائم فإن من لا يهتدي إلى الرشد وإلى الطريق مع الدليل له (77) أضل وأسوأ حالا ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه.
فصل: ومنها قوله تعالى: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون) (78) وهذا دليل قياسي احتج
الله سبحانه به على المشركين حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء فأقام عليهم حجة يعرفون صحتها (79) من نفوسهم ولا يحتاجون فيها إلى غيرهم ومن أبلغ الحجاج أن يأخذ الإنسان من نفسه ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندهم (80) معلوم لها فقال (هل لكم من ما ملكت أيمانكم من) (81) عبيدكم وإمائكم شركاء في المال والأهل أي هل يشارككم عبيدكم في أموالكم وأهليكم فأنتم وهم في ذلك سواء تخافون (82) أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها، ويستأثرون ببعضها عليكم كما يخاف الشريك شريكه وقال ابن عباس (83): (تخافون أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا) والمعنى هل
__________
(76) في ع (تتكلم بها).
(77) في ع، م (إليه).
(78) الروم: 28.
(79) راجع الكشاف 3 / 221.
(80) في م (عندها).
(81) الروم: 28 وفى الاصل وردت محرفة (من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء).
(82) في م (تخافون) انظر الطبري 21 / 39 والبغوى 5 / 207.
(83) انظر الطبري 21 / 39 والخازن والبغوى 5 / 207.



هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه كما يخاف غيره من الشركاء والأحرار فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي فإن كان هذا الحكم باطلا في فطركم (84) وعقولكم مع أنه جائز عليكم ممكن في حقكم إذ ليس عبيدكم ملكا لكم حقيقة وإنما هم إخوانكم
جعلهم الله تحت أيديكم وأنتم وهم عبادي (85) (فكيف) (86) تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي مع أن من جعلتموهم لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول (86).
فصل: ومنها قوله تعالى: (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون.
وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شئ وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم) (88).
هذان مثلان متضمنان قياسين من قياس العكس وهو نفى الحكم لنفي علته وموجبه، فإن القياس نوعان: قياس طرد يقتضي اثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه وقياس عكس يقتضي نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه فالمثل الأول ما ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان فالله سبحانه هو المالك لكل شئ ينفق كيف يشاء على عبيده سرا وجهرا ليلا ونهارا يمينه ملأى لا تغضيها إلا نفقة سحاء الليل والنهار والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شئ فكيف تجعلونها شركاء لي وتعبدونها من دوني مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين هذا قول مجاهد وغيره (89)، وقال ابن
__________
(84) خاطركم.
(85) في م (عبيد لى).
(86) زيادة من م.
(87) انظر تفسير ابن كثير، 21 / 38 والطبري 38 والامثال: 28.
(88) النحل: 75، 76 انظر الزمخشري 2 / 420 - 421.
(89) انظر تفسير الطبري 14 / 149 - 150 وابن كثير 2 / 578.



عباس (90) وهو مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، ومثل المؤمن في الخير الذي عنده ثم رزقه منه رزقا حسنا فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا والكفار بمنزلة عبد مملوك (عاجز) (91) لا يقدر على شئ لأنه لا خير عنده فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء ؟، والقول الأول أشبه بالمراد فأنه أظهر في بطلان الشرك وأوضح عند المخاطب وأعظم في إقامة الحجة وأقرب نسبا (92) بقوله: (ويعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون.
فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) (93) ثم قال: (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر) ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموحد كمن رزقه منه رزقا حسنا والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شئ فهذا مما نبه عليه المثل وأرشد إليه فذكره ابن عباس منبها على إرادته لأن (94) الآية اختصت به فتأمله فإنك تجده كثيرا في كلام ابن عباس (95) وغيره من السلف في فهم القرآن، فيظن الظان أن ذلك معنى الآية التي لا معنى لها غيره فيحكيه قوله (96).
فصل: وأما المثل الثاني فهو مثل ضربه الله سبحانه لنفسه ولما يعبدون (97) من دونه أيضا، فالصنم الذي يعبدون من دونه (98) بنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق بل هو أبكم القلب واللسان قد عدم النطق القلبي
__________
(90) انظر زاد المسير 4 / 474 وابن كثير 2 / 578 والطبري 14 / 149.
(91) مزيدة من م، ع.
(92) من م (منها).
(93) النحل: 73، 74.
(94) في م، ع (لا أن الاية).
(95) لقب بالحبر والبحر ابن عم رسول الله ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) ولقد كان ذلك.
(96) الطبري 14 / 148 - 151.
(97) في م (يعبد).
(98) في م (دون الله) وفى ع (من دون الله).



واللساني ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شئ البتة ومع هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير ولا يقضي لك حاجة والله سبحانه حي قادر متكلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد فإن أمره با لعدل وهو الحق يتضمن أنه سبحانه عالم به معلم له راض به آمر لعباده به محب لأهله لا يأمر بسواه بل ينزه عن ضده الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل بل أمره وشرعه عدل كله وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه وهم المجاوروه (99) فيه عن يمينه على منابر من نور وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني والأمر القدري الكوني وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه ما كما في الحديث الصحيح: (اللهم اني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك) (100) فقضاؤه هو أمره الكوني فإنما أمره إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون فلا يأمر بحق وعدل (101)، وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل وإن كان في المقضي المقدر ما هو جور وظلم فإن القضاء (102) غير المقضي والقدر غير المقدر ثم أخبر سبحانه (أنه على صراط مستقيم) وهذا نظير قول شعيب (103) عليه الصلاة والسلام (إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) (104) فقوله: (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها)) نظير قوله: (ناصيتي بيدك) وقوله: (إن ربي على صراط مستقيم) نظير قوله (عدل في قضاؤك) فالأول ملكه والثاني حمده
وهو سبحانه له الملك وله الحمد وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالعدل ويفعل إلا ما هو مصلحة وحكمة وعدل
__________
(99) في ع (الجاورة له).
(100) مسند أحمد 1 / 391 / 452 وانظر الكشاف 2 / 276، 277.
(101) في ع (بالحق والعدل).
(102) في م (فالقضاء).
(103) الصحيح إنه هود كما في م، ع وليس شعيبا.
(104) هود: 56.



فهو على حق في أقواله وأفعاله فلا يقضي على العبد ما يكون ظالما له به ولا يأخذه بغير ذنبه وينقصه من حسناته شيئا ولا يحمل عليه من سيئات غير التي لم يعملها ولم يتسبب إليها (105) شيئا ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره ولا يفعل قط مالا يحمد عليه ويثنى به عليه ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات المطلوبة فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله.
قال محمد بن جرير الطبري (106) وقوله: (إن ربي على صراط مستقيم) يقول إن ربي على طريق الحق يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسئ بإساءته لا يظلم أحدا منهم شيئا ولا يقبل منهم إلا الإسلام والإيمان (ثم حكى عن مجاهد (107) من طريق شبل عن ابن أبي نجيح عنه: (إن ربي على صراط مستقيم) قال: الحق وكذلك رواه ابن جريج عنه (108) وقالت فرقة: هي مثل قوله (إن ربك لبالمرصاد) (109) وهذا اختلاف عبارة فإن كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته، وقالت فرقة: في الكلام حذف تقديره: إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه (110)، وهؤلاء إن
أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها فليس كما زعموا ولا دليل على هذا المقدر.
وقد فرق سبحانه بين كونه آمرا بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم وإن أرادوا أن حثه على الصراط المستقيم من جملة على صراط مستقيم فقد أصابوا، وقالت فرقة أخرى معنى كونه على صراط مستقيم أن مرد العباد والأمور كلها
__________
(105) في ع (يتسبب بها).
(106) تفسير: 12 / 60 وهو الامام الجليل صاحب التصانيف الكثيرة توفى سنة 310 ه.
(107) من أبرز أئمة التابعين.
(108) هو الامام عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح الدوسى الاموى صاحب التصانيف توفى سنة 150 ه انظر زاد المسير 4 / 118.
(109) هم الاشاعرة انظر غرائب القرآن 12 / 39، زاد المسير 4 / 401 والرازي 17 / 13.
(110) الخازن والبغوى 3 / 238.



إلى الله لا يفوته شئ (111) منها، وهؤلاء أن أرادوا أن هذا معني الآية فليس كذلك وإن أرادوا ان هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه وموجبه فهو حق، وقالت فرقة أخرى: معناه كل شئ تحت قدرته وقهره وفي ملكه وقبضته (112) وهذا وإن كان حقا فليس هو معنى الآية وقد فرق شعيب (113) عليه الصلاة والسلام بين قوله: (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) وبين قوله: (إن ربي على صراط مستقيم) فهما معنيان مستقلان فالقول قول مجاهد (114) وهو قول أئمة التفسير ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه، قال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز: (115)
أمير المؤمنين على صراط * إذا اعوج الموارد مستقيم وقد قال تعالى: (من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) (116) وإذا كان الله تعالى هو الذي جعل رسله عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم فهو سبحانه أحق أن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره فصراطه الذي هو سبحانه عليه هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده من قول الحق وفعله وبالله التوفيق.
فصل: وفي الآية قول ثان مثل الآية الأولى سواء (117) أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر وقد تقدم ما في معنى (118) هذا القول والله الموفق
__________
(111) في الاصل (شيئا).
(112) ابن كثير 2 / 450.
(113) هود وليس شعيبا كما في ع.
(114) الطبري 12 / 61.
(115) ديوان جرير 1 / 218 يمدح هشام بن عبد الملك.
(116) الانعام: 39.
(117) في ع (سوى).
(118) كلمة (معنى) ساقطة من م، ع.



فصل: ومنها قوله تعالى في تشبيه من أعرض عن كلامه وتدبره: (فما لهم عن التذكرة معرضين.
كأنهم حمر مستنفرة.
فرت من قسورة) (119) شبههم في إعراضهم ونفورهم عن القرآن بحمر رأت الأسد والرماة ففرت منه، وهذا من بديع التمثيل (120) فإن القوم من جهلهم بما بعث الله سبحانه رسوله
صلى الله عليه وسلم كالحمر فهي لا تعقل شيئا فإذا سمعت صوت الأسد أو الرامي نفرت منه أشد النفور وهذا غاية الذم لهؤلاء فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحمر عما يهلكها ويعقرها.
وتحت المستنفرة معنى أبلغ من النافرة فإنها لشدة نفورها قد استنفر بعضها بعضا وحضه على النفور فإن في الاستفعال (121) من الطلب قدرا زائدا على الفعل المجرد فكأنها تواصت بالنفور وتواطأت عليه، ومن قرأها بفتح الفاء (122) فالمعنى: أن القسورة استنفرها وحملها على النفور ببأسه وشدته (123).
فصل: ومنها قوله تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين) (124) فقاس سبحانه من حمله كتابه ليؤمن به ويتدبره ويعمل به ويدعو إليه ثم خالف ذلك ولم يحمله إلا على ظهر قلب فقرأه به (125) بغير تدبر ولا تفهم ولا اتباع له (ولا) (126) تحكيم له وعمل بموجبه كحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها وحظه منها حملها على ظهره ليس إلا فحظه
__________
(119) المدثر: 49 - 51.
(120) في م (القياس والتمثيل).
(121) ع (الاستغفار).
(122) انظر معاني القرآن 3 / 206 وإملاء مامن به الرحمن 2 / 273 والكافي 186.
(123) تفسير النسفى 4 / 312.
(124) الجمعة: 5.
(125) م، ع (فقراءته).
(126) مذيدة من م.



من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره فهذا المثل وإن كان قد ضرب لليهود فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به ولم يؤد حقه ولم يرعه حق رعايته (127).
فصل: ومنها قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) (128) فشبه سبحانه من آتاه كتابه وعلمه العلم الذي منعه غيره فترك العمل به واتبع هواه وآثر سخط الله على رضاه ودنياه على آخرته والمخلوق على الخالق بالكلب الذي هو من أخبث الحيوانات وأوضعها قدرا وأخبثها (129) نفسا وهمته لا تتعدى بطنه وأشدها شرها وحرصا ومن حرصه أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمم ويتروح حرصا وشرها ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزائه وإذا رميت له بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان وأرضاها بالدنايا والجيف المروحة أحب إليه من اللحم الطري والقذرة أحب إليه من الحلوى وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا (130) يتناول معه منه شئ إلا هر عليه وقهره (131) لحرصه وبخله وشره ومن عجيب أمره وحرصه أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية وحال زرية نبحه وحمل عليه كأنه يتصور مشاركته له ومنازعته في قوته وإذا رأى ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورئاسة وضع له خطمه (132) بالأرض وخضع له ولم يرفع إليه رأسه وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على
__________
(127) الجمان 312 / 313.
(128) الاعراف: 176.
(129) في م، ع (احنسها).
(130) في م (كلبا واحدا).
(131) في م (الا عن غلبة وقهر).
(132) خشمه.



الله والدار الآخرة مع وفور علمه بالكلب في لهثه (133) سر بديع وهو أن الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه إنما كان لشدة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة فهو شديد اللهف عليها، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال ازعاجه وتركه، واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى قال ابن جريج: (134) (الكلب منقطع الفؤاد لا فؤاد له أن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث فهو مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له إنما فؤاده ينقطع)، قلت: مراده بانقطاع فؤاده أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك اللهث وهكذا الذي انسلخ من آيات الله لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا وترك اللهف عليها فهذا يلهف على الدنيا من قلة صبره عليها وهذا يلهث من قلة صبره على الماء فالكلب من أقل الحيوانات صبرا عن الماء، وإذا عطش أكل الثرى من العطش وإن كان صبر عن الجوع (135)، وعلى كل حال فهو من أشد الحيوانات لهثا يلهث قائما وقاعدا وماشيا وواقفا ذلك لشدة حرصه فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث فهكذا مشبهه شدة (136) حرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث (137) فإن حملت عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهث وإن تركته ولم تعظه فهو يلهف قال مجاهد (138): وذلك مثال الذي أوتى الكتاب ولم يعمل به، وقال ابن عباس (139): إن تحمل عليه الكلمة لم يحملها وإن تركته لم يهتد إلى الخير
__________
(133) في م (لهفه).
(134) في م (وإن كان فيه صبر على الجوع) سبق تعريفه انظر الطبري 9 / 129.
(135) في م (وإن كان فيه على الجوع).
(136) في م (شدة الحرص وحرارة الشهوة).
(137) في م (اللهف).
(138) تفسير مجاهد 1 / 251، الطبري 9 / البغوي 2 / 315.
(139) الطبري 9 / 129.



كالكلب إن كان رابضا لهث وإن طرد لهث، وقال الحسن: (140) (وهو المنافق لا يثبت على الحق دعي أو لم يدع وعظ أم لم يوعظ كالكلب يلهث طرد أو ترك، وقال عطاء (141): ينبح إن حملت عليه أو لم تحمل عليه، وقال محمد بن قتيبة (142): (كل شئ يلهث إنما يلهث من إعياء أو عطش ألا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال أو حال الراحة وحال الصحة وحال المرض والعطش فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته)، وقال ابن عطية (إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث، ونظيره قوله تعالى: (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون) (14 3).
وتأمل ما في هذا المثل من الحكم والمعنى فمنها قوله: (وآتيناه آياتنا)) فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته فإنها نعمة، والله هو الذي أنعم بها عليه فأضافها إلى نفسه ثم قال: (فانسلخ منها) أي خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها وفارقها فراق الجلد ينسلخ عن اللحم، ولم يقل فسلخناه منها لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباع هواه، ومنها قوله سبحانه: (فأتبعه الشيطان) أي لحقه وأدركه كما قال تعالى في قوم فرعون: (فأتبعوهم مشرقين (144)) فكان محفوظا محروسا بآيات الله محمي الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئا إلا غلى غرة وخطفة فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته فكان من الغاوين العاملين بخلاف علمهم الذين يعرفون الحق ويعملون
__________
(140) الطبري 9 / 129 وابن كثير 2 / 267.
(141) الكشف والبيان: 131.
(142) انظر تاريخ بغداد ح 2 توفى سنة 389 ه انظر تأويل مشكل القرآن 365 والقرطبى / 322، البغوي 2 / 316.
(143) تفسير البغوي 2 / 316.
(144) الشعراء: 60.



بخلافه كعلماء السوء، ومنها أنه سبحانه قال: (ولو شئنا لرفعناه بها) (145) فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم (فإن هذا كان من العلماء) (146) وإنما هي باتباع الحق إيثاره وقصد مرضاة الله تعالى فان هذا كان من أعلم أهل زمانه ولم يرفعه الله بعلمه ولم ينفعه به فتعوذ بالله من علم لا ينفع، وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء بما آتاه الله من العلم وإن لم يرفعه الله فهو موضوع لا يرفع أحد به رأسا فإن الخافض الرافع الله سبحانه خفضه ولم يرفعه، والمعنى: ولو شئنا فضلناه وشرفناه ورفعنا قدره ومنزلته بالآيات التي آتيناه، قال ابن عباس رضي الله عنهما (147): (ولو شئنا لرفعناه بعلمه بها) وقالت طائفة (148): الضمير في قوله (لرفعناه) عائد على الكفر، والمعنى، ولو شئنا لرفعناه عن الكفر بما معه من آياتنا، قال مجاهد وعطاء (149): (لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعصمناه) وهذا المعنى حق والأول مراد الآية، وهذا من لوازم المراد وقد تقدم أن السلف كثيرا ما ينبهون على لازم معنى الآية فيظن الظان أن ذلك هو المراد منها، وقوله: (ولكنه أخلد إلى الأرض)، قال سعيد بن جبير (150): ركن إلى الأرض.
وقال مجاهد (151): سكن، وقال مقاتل (152) رضي بالدنيا، وقال
__________
(145) الاعراف: 176 وانظر الكشاف 3 / 115.
(146) زيادة في م، ع.
(147) انظر تفسير الطبري 9 / 127 والبغوى 2 / 315.
(138) انظر زاد المسير 3 / 190 والفخر الرازي 15 / 55 وروح المعاني 3 / 163.
(149) مجاهد بن جبير المكى 21 - 103 ه من أبرز التابعين قال عنه الامام الثوري (إذا جاءك التفسير من مجاهد فحسبك) انظر البغوي والخازن 2 / 315 (قال مجاهد وعطاء).
(150) سعيد بن حبير بن هشام الاسدي الوالى توفى سنة 95 ه انظر القرطبى 7 / 321 والطبري 9 / 127.
(151) القرطبى 7 / 322 والطبري 9 / 127.
(152) هو ابن سليمان البلخى انظر البرهان للزركشي 2 / 158 وغرائب القرآن 9 / 85.



أبو عبيدة (153): (لزمها وأبطأ والمخلد من الرجال هو الذي تبطئ مشيته ومن الدواب الذي تبقى ثناياه إلى أن تخرج رباعيته) وقال الزجاج (154): خلد وأخلد (واحد) (155) وأصله من الخلود وهو الدوام والبقاء يقال: فلان أخلد ولاذ بالمكان إذا أقام به) قال مالك بن نويره: بأبناء حي من قبائل مالك وعمرو بن يربوع أقاموا وأخلدوا.
قلت: ومنه قوله تعالى: (يطوف عليهم ولدان مخلدون) (156) أي قد خلقوا للبقاء لذلك لا يتغيرون ولا يكبرون وهم على سن (157) واحد أبدا (158)، وقيل (159) المقرطون في آذانهم والمسورون في أيديهم (160) وأصحاب هذا القول فسروا اللفظ ببعض لوازمه وذلك إشارة (161) إلى التخليد على ذلك السن فلا ينافي القولين (162).
وقوله: (واتبع هواه) قال الكلبي (163): (اتبع مسافل الأمور وترك معاليها) وقال أبو روق (164) (اختار الدنيا على الآخرة) وقال عطاء: (165)
__________
(153) انظر الطبري 9 / 128 ومجاز القرآن 9 / 85.
(154) النحوي وتفسيره معاني القرآن البغوي 2 / 315 والرازي 15 / 56 وزاد الميسر 3 / 290.
(155) الزيادة من البغوي.
(156) الواقعة: 17.
(157) في م (على ذلك).
(158) زاد المسير 8 / 136.
(159) في م (هم المقرطون).
(160) غريب القرآن 153، وزاد المسير 8 / 136.
(161) في م، ع (إمارة التخليك).
(162) في م، ع (فلا تنافى بين القولين).
(163) الكلبى هو أبو النضر محمد بن السائب بن بشر الكلبى الكوفى انظر وميزان الاعتدال 3 / 61.
والكشف والبيان 131.
(164) الكشف والبيان 131 وهو عطية بن الحارث الكوفى ذكره سعد في الطقة الخامسة من الكوفيين انظر الطبقات 6 / 369.
(165) البغوي 2 / 315.



أراد الدنيا وأطاع..شيطانه)، وقال ابن زيد (166): (كان هواه مع القوم) يعني الذين حاربوا موسى عليه الصلاة والسلام وقومه وقال يمان: (اتبع امرأته لأنها هي التي حملته على ما فعله (167)، فإن قيل الإستدراك بلكن يقتضي أن يثبت بعدها نفي (168) ما قبلها أو ينفي ما أثبت كما تقول: لو شئت لأعطيته
لكني لم أعطه ولو شئت لما فعلت كذا لكني فعلته، فالاستدراك يقتضي (ولو شئنا لرفعناه بها) ولكنا لم نشأ، أو فلم نرفع ولكنه أخلد (169) فكيف استدرك بقوله: (ولكنه أخلد إلى الأرض) بعد قوله: (ولو شئنا لرفعناه (170) بها) قيل: هذا من الكلام الملحوظ فيه (171) المعنى المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني، وذلك أن مضمون قوله: (ولو شئنا لرفعناه بها) أنه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات من ايثار الله ومرضاته على هواه ولكنه آثر الدنيا وأخلد إلى الأرض واتبع هواه، وقال الزمخشري (172) (المعنى ولو لزم آياتنا لرفعناه بها فذكر المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه قال: ألا ترى إلى قوله: (ولكنه أخلد) فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله فوجب أن تكون (ولو شئنا) في معنى ما هو فعله ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال ولو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ: فهذا (173) منه شنشنة نعرفها من قدري ناف للمشيئة العامة مبعد للنجعة في جعل كلام الله معتزليا
__________
(166) انظر زاد المسير 3 / 290 والبغوى 2 / 315 والقرطبى 7 / 322.
(167) الكشف والبيان 131 وزاد المسير 3 / 290 وفتح القدير 2 / 265.
(168) في م، ع (يثبت بعدها مانقى قبلها).
(169) ليست في م.
(170) الاعراف: 176.
(171) في م، ع (جانب المعنى).
(172) هو أبو القاسم جار الله محمد الزمخشري المتوفى سنة 538 ه وكان عالما وإماما باللغة والنحو والتفسير انظر تفسيره الكشاف 1 / 587 ويفضل قراءة النسخة الخاصة بالكشاف المحققة لبيان ما فيها من الاعتزال والتعليق عليها.
(173) انظر الكشاف 2 / 131 بنفس النص.



قدريا فأين قوله: (ولو شئنا) من قوله ولو لزمها ثم إذا كان اللزوم لها موقوفا على مشيئة الله.
وهو الحق بطل أصله، وقوله: (إن مشيئة الله تابعة للزومه لآياته تابعة لمشيئة الله عز وجل فمشيئة الله سبحانه متبوعة لاتابعة وقال وسبب لا مسبب وموجب مقتضي لا مقتضى (174) فما شاء الله وجب وجوده وما لم يشأ امتنع وجوده.
فصل: ومنها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه، واتقوا الله إن الله تواب رحيم) (175)، وهذا من أحسن القياس التمثيلي فانه شبه تمزيق عرض (الأخ بتمزيق لحمه ولما كان المغتاب يمزق عرض) أخيه في غيبته كان بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة روحه عنه بالموت لما كان المغتاب عاجزا عن دفعه بنفسه بكونه غائبا عن ذمه كان بمنزلة الميت الذي يقطع لحمه ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه، ولما كان مقتضى الأخوة التراحم والتواصل والتناصر فعلق عليها المغتاب ضد مقتضاها من الذم والعيب والطعن كان ذلك نظير (176) تقطيعه لحم، أخيه والأخوة تقتضي حفظه وصيانته والذب عنه، ولما كان المغتاب متفكها (177) بغيبته وذمه متحليا بذلك شبه بأكل لحم أخيه بعد تقطيعه، ولما كان المغتاب محبا لذلك معجبا به شبه بمن يحب أكل لحم أخيه ميتا ومحبته لذلك قدر زائد على مجرد أكله كما أن أكله قدر زائد على تمزيقه، فتأمل هذا التشبيه والتمثيل وحسن موقعه ومطابقة المعقول فيه للمحسوس وتأمل أخباره عنهم بكراهة أكل لحم الأخ ميتا، ووصفهم بذلك في آخر الآية والإنكار عليهم في أولها أن يجب
__________
(174) في ع (يقتضى لا يقتضى).
(175) الحجرات: 12 انظر الكشاف 3 / 567.
(176) في ع (بمنزلة).
(177) في م (متمتعا بعرض أخى متفكها) وفى ع (مستمتعا).



أحدهم ذلك فكما أن هذا مكروه في طباعهم فكيف يحبون ما هو مثله ونظيره فاحتج عليهم بما كرهوه على ما أحبوه وشبه لهم ما يحبونه بما هو أكره شئ إليهم وهم أشد شئ نفرة عنه فلهذا يوجب العقل والفطرة والحكمة أن يكونوا اشد شئ نفرة عما هو نظيره ومشبهه (178) وبالله التوفيق فصل: ومنها قوله تعالى: (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شئ ذلك هو الضلال البعيد) (179) فشبه تعالى أعمال الكفار في بطلانها وعدم الانتفاع بها برماد مرت عليه ريح شديدة في يوم عاصف فشبه سبحانه أعمالهم في حبوطها وذهابها باطلا كالهباء المنثور لكونها على غير أساس من الإيمان والإحسان وكونها لغير الله عز وجل وعلى غير أمره برماد طيرته الريح العاصف فلا يقدر صاحبه على شئ منه وقت شدة حاجته إليه فلذلك لا يقدرون مما كسبوا على شئ لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شئ فلا يرون لها (180) أثرا من ثواب ولا فائدة نافعة فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه موافقا لشرعه، والأعمال أربعة فواحد مقبول وثلاثة مردودة، فالمقبول: الخالص الصواب، فالخالص أن يكون لله لا لغير، والصواب أن يكون مما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والثلاثة المردودة: ما خالف ذلك.
وفي تشبيهها بالرماد سر بديع وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم وبين الرماد في
إحراق النار وإذهابها لأصل هذا وهذا فكانت الأعمال التي لغير الله عز وجل وعلى غير مراده طعمة للنار وبها تسعر النار على أصحابها وينشئ الله لهم من أعمالهم الباطلة نارا وعذابا كما ينشئ لأهل الأعمال الموافقة لأمره (181)
__________
(178) في ع (شبيهه).
(179) إبراهيم: 18 الزمخشري 2 / 372.
(180) في م، ع (له).
(181) في م (لأمره ونهيه).



التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيما وروحا فأثرت النار في أعمال أولئك حتى جعلتها رمادا فهم وما يعبدون من دون الله وقود النار (182).
فصل: ومنها قوله تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) (183) فشبه سبحانه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين الذين يقولون: (الكلمة الطيبة هي شهادة أن لا إله إلا الله (184)) فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة فكل عمل صالح مرضي لله عز وجل ثمرة هذا الكلمة، وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (185): أصلها ثابت قول (186) لا إله إلا الله في قلب المؤمن، وفرعها في السماء يقول: يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء) وقال الربيع بن أنس (187): [ كلمة طيبة هذا مثل الإيمان، والإيمان الشجرة الطيبة، وأصلها الثابت الذي لا يزول الإخلاص فيه، وفرعه في السماء خشية الله، والتشبيه على هذا القول
أصح وأظهر وأحسن ] فإنه سبحانه شبه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل الباسقة الفرع في السماء علوا التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل
__________
(182) انظر الطبري 13 - 196 / 197 والدر المنثور 4 / 75 والبغوى 4 / 37.
(183) إبراهيم: 24 والكشاف 2 / 376.
(184) انظر الطبري 13 / 203 وابن كثير 2 / 530 والدر المنثور 4 / 75 البغوي.
(185) انظر ابن كثير 2 / 530 والطبري 13 / 203.
(186) في الطبري وابن كثير (يقول).
(187) ابن جرير 13 / 203، 104.



حين، وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب التي فروعها من الأعمال الصالحة صاعدة إلى السماء ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت بحسب ثباتها في القلب ومحبة القلب لها وإخلاصه فيها ومعرفته بحقيقتها وقيامه بحقها (188) ومراعاتها حق رعايتها فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها واتصف قلبه بها وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها فيعرف حقيقة الهيئة (189) التي يثبتها قلبه لله ويشهد بها لسانه وتصدقها جوارحه ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله عز وجل وواطأ (190) قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربه ذللا غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلا كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلا، فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتى ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الرب تعالى وهذه الكلمة الطيبة تثمر كثيرا طيبا كلما يقارنه (191) عمل صالح فيرفع العمل الصالح الكلم الطيب كما قال
تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) (192) فأخبر سبحانه أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب وأخبر أن الكلمة (193) الطيبة تثمر لقائلها كل وقت عملا صالحا كل وقت.
والمقصود أن كلمة التوحيد إذا شهد المؤمن بها عارفا بمعناها وحقيقتها نفيا واثباتا متصفا بموجبها قائما قلبه ولسانه وجوارحه بشهادته، فهذه الكلمة (194) من هذا الشاهد أصلها ثبات راسخ في قلبه وفروعها متصلة
__________
(188) في م (بحقوقها).
(189) في م (الإلهية).
(190) في م ع (وافق).
(191) في م، ع (تثمر كلما كثيرا طيبا).
(192) فاطر: 10.
(193) في الاضل الكلم الطيبة فأثبتنا التاء في آخرها انظر الكشاف 2 / 302.
(194) في م (فهذه الكلمة الطيبة هي التى رفعت هذا العمل من هذا الشاهد).



بالسماء وهي مخرجة لثمرتها كل وقت، ومن السلف من قال [ إن الشجرة الطيبة هي النخلة ] (195) ويدل عليه حديث ابن عمر الصحيح (196)، ومنهم من قال: هي المؤمن نفسه كما قال محمد بن سعد حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله: (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة) يعني بالشجرة الطيبة المؤمن ويعني بالأصل الثابت في الأرض والفرع في السماء يكون المؤمن يعمل في الأرض ويتكلم فيبلغ قوله وعمله السماء وهو في الأرض (197)، وقال عطية العوفي في (ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة) قال (198): (ذلك مثل المؤمن لا يزال يخرج منه كلام طيب وعمل صالح يصعد إلى الله).
وقال الربيع بن أنس (199): (أصلها ثابت وفرعها في السماء) قال: ذلك المؤمن ضرب مثله في الإخلاص لله وحده وعبادته وحده لا شريك له (قال: أصلها ثابت) قال: أصل عمله ثابت في الأرض (وفرعها في السماء) قال: ذكره في السماء.
ولا اختلاف بين القولين، فالمقصود بالمثل المؤمن والنخلة مشبهة به وهو مشبه بها وإذا كانت النخلة شجرة طيبة فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك ومن قال من السلف: إنها شجرة في الجنة (200) فالنخلة من أشرف أشجار الجنة.
__________
(195) انظر الطبري 13 / 204 وابن كثير 2 / 530 والبغوى 4 / 40 وتفسير مجاهد 1 / 337.
(196) صحيح البخاري 1 / 130 ومسلم 4 / 2165 ونصه (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم فحدثوني ماهى ? فوقع الناس في شجر البوادى، قال عبد الله.
وقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت ثم قالوا: حدثنا ماهى يارسول ؟ فقال (هي النخلة).
(197) ابن جرير 13 / 204.
(198) نفس المصدر السابق.
(199) سبق تعريفه.
(200) انظر الخزن والبغوى 4 / 40 وابن كثير 2 / 530 وزاد المسير 4 / 358.



وفي هذا المثل من الأسرار والعلوم والمعارف ما يليق (201) ويقتضيه علم الذي تكلم به سبحانه وحكمته، فمن ذلك أن الشجرة لا بد لها من عروق (وساق وفروع) (202) وورق وثمر فكذلك شجرة الإيمان والإسلام ليطابق المشبه المشبه به فعروقها العلم والمعرفة واليقين وساقها الإخلاص وفروعها
الأعمال وثمرتها ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة والصفات الممدوحة والأخلاق الزكية والسمت الصالح والهدى والدل (203) المرضى فيستدل على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور فإذا كان العلم صحيحا مطابقا لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به، والاعتقاد مطابقا لما أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله صلوات الله وسلامه عليهم والإخلاص قائم في القلب والأعمال موافقة للأمر والهدى والدل والسمت مشابه لهذه الأصول مناسب لها علم أن شجرة الإيمان في القلب أصلها ثابت وفرعها في السماء وإذا كان الأمر بالعكس علم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار، ومنها: أن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها فإذا انقطع عنها السقي أوشك أن تيبس فهكذا شجرة الإسلام (204) في القلب إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعمل النافع والعمل الصالح والعود بالتذكر على التفكر والتفكر على التذكر وإلا أوشك أن تيبس، وفي مسند الإمام أحمد (205) من حديث أبي هريرة (206) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان يخلق في القلب كما يخلق الثوب
__________
(201) في م، ع (يليق به).
(202) زيادة ممن م، ع.
(203) زيادة من م، ع.
(204) في ع (شجرة الايمان).
(205) وهو الامام المحدث الفقيه.
(206) هو عبد الرحمن بن صخر الدوسى وكان من أكثر الصحابة حفظا للحديث ورواية له توفى سنة 95 ه.



فجددوا ايمانكم) (207).
وبالجملة فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك، ومن هنا يعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقب الأوقات وعظيم رحمته وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده بأن وضعها عليهم وجعلها مادة لسقي غراس التوحيد الذي غرسه في قلوبهم.
ومنها: إن الغرس والزرع النافع قد أجرى الله سبحانه العادة (أنه) (208) لا بد أن يخالطه دغل ونبت غريب ليس من جنسه فإن تعاهده ربه ونقاه وقلمه كمل الغرس والزرع واستوى وتم نباته وكان أوفر لثمرته وأطيب وأزكى وإن تركه أوشك أن يغلب على الغرس والزرع ويكون الحكم له أو يضعف الأصل ويجعل الثمرة ذميمة ناقصة بحسب كثرته وقلته ومن لم يكن له فقه يقيس (209) في هذا ومعرفته به فإنه يفوته ربح (210) كثير وهو لا يشعر فالمؤمن دائم سعيه في شيئين (211): سقي هذه الشجرة وتنقية ما حولها فبسقيها (212) تبقى وتدوم وبتنقية ما حولها تكمل وتتم والله المستعان وعليه التكلان.
فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم، ولعلها قطرة من بحر بحسب أذهاننا الواقعة وقلوبنا المخبطة (213) وعلومنا القاصرة وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار وإلا فلو طهرت منا القلوب وصفت الأذهان وزكت النفوس وخلصت الأعمال وتجردت الهمم للتقي عن الله تعالى
__________
(207) أيضا في معجم الطبراني والمستدرك والملخص 1 / 4 عن عبد الله بن عمرو وهو حديث حسن.
(208) زيادة في م.
(209) في م (فقه نفيس) وفى ع (فقه في نفس هذه).
(210) زيادة في م وفى ع (فاته ربح كثير).
(211) في ع (شأن سقى).
(212) الفاء زائدة لم تكن في الاصل.
(213) في م (المخطئة) وهى الاصح.



ورسوله صلى الله عليه وسلم لشاهدنا من معاني كلام الله عز وجل وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم وتتلاشى عنده معارف الحق وبهذا يعرف قدر علوم الصحابة ومعارفهم رضي الله عنهم وإن التفاوت الذي بين علومهم وعلوم من بعدهم كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والله أعلم حيث يجعل مواقع فضله ومن يختص برحمته فصل: ثم ذكر سبحانه مثل الكلمة الخبيثة فشبهها بالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار (214) فلا عرق ثابت ولا فرع عال ولا ثمرة زاكية ولا ظل ولا جنى ولا ساق قائم ولا عرق في الأرض ثابت مغدق ولا أعلاها مونق ولا جنى لها ولا تعلو بلى تعلى.
وإذا تأمل اللبيب أكثر كلام هذا الخلق في خطابهم وكتبهم (215) وجده كذلك فالخسران كل الخسران (216) الوقوف معه والاشتغال به عن أفضل الكلام وأنفعه، قال الضحاك: (217) (ضرب الله مثلا للكافر بشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار) يقول: ليس لها أصل ولا فرع وليس لها ثمرة ولا فيها منفعة كذلك الكافر ليس يعمل خيرا ولا يقوله ولا يجعل الله فيه بركة ولا منفعة وقال ابن عباس (218).
(ومثل كلمة خبيثة وهي الشرك كشجرة خبيثة يعني الكافر اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، يقول: الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ولا برهان ولا يقبل الله عمل المشرك ولا يصعد إلى الله فليس له
أصل ثابت في الأرض ولا فرع في السماء يقول ليس له عمل صالح في السماء ولا في الآخرة، وقال الربيع بن أنس (219).
(مثل الشجرة الخبيثة مثل
__________
(214) زيادة في م.
(115) في م (وكسبهم).
(216) (الخسران) الثانية ساقطة من م.
(217) هو ابن مزاحم الهلالي مولاهم الخرساني روى عن بعض الصحابة وأخذ عنهم العلم توفى سنة 105 ه انظر الطبري 13 / 213.
(219) تفسير الطبري 13 / 213.



الكافر ليس لقوله ولا لعمله أصل ولا فرع ولا يستقر قوله ولا عمله على الأرض ولا يصعد إلى السماء) وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية (إن رجلا لقي رجلا من أهل العلم فقال له: ما تقول في الكلمة الخبيثة ؟ قال لا اعلم لها في الأرض مستقرا ولا في السماء مصعدا إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافي بها يوم القيامة) (220) وقوله اجتثت أي استؤصلت من فوق الأرض، ثم أخبر سبحانه عن فصله وعدله في الفريقين أصحاب الكلم الطيب والكلم الخبيث فأخبر أنه يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت أحوج ما يكونون إليه في الدنيا والآخرة وأنه يضل الظالمين وهم المشركون عن القول الثابت فأضل هؤلاء بعدله لظلمهم وثبت المؤمنين بفضله لإيمانهم.
وتحت قوله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) كنز عظيم من وقف عليه لظنته (221) وهو وأحسن استخراجه واقتناءه (222) وأنفق منه فقد غنم ومن حرمه فقد حرم وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله طرفة عين فإن لم يثبته وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه، عبده
ورسوله صلى الله عليه وسلم: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) (223)، وقال تعالى: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا) (224) وفي الصحيحين من حديث البجلي قال: (وهو يسألهم ويثبتهم) (225)، وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) (226).
__________
(220) الطبري 13 / 212.
(221) في ع، م من وفق لمظنته.
(222) في ع (واقتتنه).
(223) الإسراء: 74.
(224) الأنفال: 12 انظر الكشاف 2 / 460.
(225) رواه الترمزى 4 / 689 - 690 ومسند أحمد 2، 368 / 369 (وهو يأمرهم ويثبتهم) (226) هود: 120.



فالخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت ومخذول بترك التثبيت، ومادة التثبيت وأصله ومنشأه من القول الثابت وفعل ما أمر به العبد فيهما يثبت الله عبده فكل ما كان أثبت قولا وأحسن فعلا كان أعظم تثبتا، قال تعالى: (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا) (227) فأثبت الناس قلبا أثبتهم قولا والقول الثابت هو القول الحق والصدق وهو ضد القول الباطل الكذب، فالقول نوعان: ثابت له حقيقة وباطل لا حقيقة له، وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها فهي أعظم ما يثبت الله بها عباده في الدنيا والآخرة، ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبا والكاذب من أمهن الناس
وأخبثهم وأكثرهم تلويا وأقلهم ثباتا (228)، وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الاختبار وشجاعته ومهابته ويعرفون (229) كذب الكاذب بضد ذلك، ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة، وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به فقال: والله ما فهمت منه شيئا الا أني سمعت لكلامه صولة ليست بصولة مبطل فما منح العبد منحة أفضل من منحة القول الثابت) ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم ويوم معادهم كما في صحيح مسلم (230) من حديث البراء (231) بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر (232)، وقد جاء (هذا) (233) مبينا في أحاديث صحاح فمنها ما في المسند من حديث داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال: (يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا الإنسان دفن وتفرق عنه
__________
(227) النساء: 66 انظر تفسير الكشاف 1 / 539.
(228) في ع (وأجبنهم تلوما) وفى م (أجبنهم وأكثرهم تلونا).
(229) زيادة في م، ع (230) هو الحافظ الحسين بن الحجاج بن مسلم القشيرى النيسابوري ولد سنه 304 ه.
(231) البراء بن عازم بن الحارث بن عدى الانصاري انظر تجريد الاسماء الذهبي 1 / 46.
(232) مسلم 4 / 2201، 2202 صحيح البخاري 3، 104 / 105 والنسائي 4 / 84.
(233) زيادة من م، ع.



أصحابه جاءه ملك بيده مطراق فأقعده فقال: ما تقول في هذا الرجل ؟ فإن كان مؤمنا قال: أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول له صدقت فيفتح له باب إلى النار فيقال له: هذا منزلك
لو كفرت بربك فأما إذ آمنت فإن الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى الجنة فيريد أن ينهض له: اسكن ثم يفسح له في قبره، وأما الكافر والمنافق فيقال له: ما تقول في هذا الرجل فيقول: لا أدري، فيقال: لا دريت ولا اهتديت، ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له: هذا منزلك لو آمنت بربك فأما إذ كفرت فإن الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين (234) قال بعض أصحابه: يا رسول الله: ما منا من أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا هيل عند ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) (235).
وفي المسند (236) من حديث البراء بن عازب وروى المنهال عن عمرو وعن زاذان عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر قبض روح المؤمن فقال يأتيه آت - يعني في قبره - فيقول: من ربك وما دينك ومن نبيك ؟ فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد صلى الله عليه وسلم قال: فيقول له: ما ربك وما دينك وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن فذلك حين يقول الله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم فيقال له: صدقت) (237) وهذا حديث صحيح.
__________
(234) مسلم جنة 67 ومسند أحمد 3 / 423 الطبري 13 / 214.
(235) ابراهيم: 27 وانظر تفسير الكشاف 2 / 377.
(236) مسند أحمد 4 / 274.
(237) سنن أبى داود والمسند 2 / 296.
ونحن بصدد طبع كتاب (سكرات الموت) وفقنا الله لاتماته.



وقال حماد بن سلمة عن محمد بن عمر وعن أبي سلمة عن أبي هريرة (238) قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) قال: إذا قيل له في القبر: من ربك وما دينك فيقول: ربي الله وديني الاسلام ونبي محمد جاء بالبينات من عند الله فآمنت وصدقت فيقال له: صدقت، على هذا عشت وعليه مت وعليه تبعث) (239) وقال الأعمش (240) عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب قال: قال إ رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر قبض روح المؤمن قال: فترجع روحه في جسده ويبعث إليه ملكان شديدان فيجلسانه وينهرانه ويقولان من ربك ؟ فيقول: الله وما دينك ؟ فيقول: الإسلام، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول: محمد رسول الله.
قال: فيقولان له: وما يدريك ؟ قال: يقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، وذلك قول الله تبارك وتعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) رواه ابن حبان (241) في صحيحه وأحمد (242)، وفي صحيحه أيضا من حديث أبي هريرة يرفعه قال: (إن الميت ليسمع خفق نعالهم يولون عنه مدبرين، فإذا كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه وكان الصيام عن يساره، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه فيؤتى من عند رأسه فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل فيؤتى عن يمينه فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل فيؤتي عن يساره فيقول الصيام: ما قبلي مدخلى فيؤتى من عند
__________
(238) ادظر الاصابة لابن حجر 4 / 202 - 212.
(239) سنن النسائي - كتاب الجنائز 114، مسند أحمد 3 / 4 والطبري 13 / 215.
(240) هو سليمان بن ممران الاسدي بالولاء أبو محمد الملقب بالاعمش التابعي انظر وفيات الاعيان 1 / 213.
(241) هو ابن حاتم محمد بن حيان البستى المتوفى سنة 354 ه انظر كشف الظنون لحاجى
خليفة 2 / 1075.
(242) الطبري 13 / 215 ترجمة أحمد انظر كشف الظنون 2 / 1680 ه.



رجليه فتقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس ما قبلي مدخل، فيقال له: اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس قد قدمت للغروب فيقال له: أخبرنا عما نسألك عنه فيقول: وعم تسألوني ؟ فيقول: دعوني حتى أصلي فيقال: إنك ستفعل.
فأخبرنا عما نسألك فيقول: وعم تسألون ؟ فيقال له: أرأيت هذا الرجل الذي بعث فيكم ماذا تقول فيه وماذا تشهد به عليه ؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم، فيقولون: نعم، فيقول: أشهد أنه رسول الله وأنه جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه فيقال له: على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء الله ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا وينور له فيه ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال: انظر إلى ما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا ثم يجعل نسمته في النسم الطيبة وهي طير خضر تعلق بشجر الجنة فيعاد الجسد إلى ما بدا منه من التراب وذلك قول الله (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) (243) ولا تستطل هذا الفصل المعترض فالمفتي والشاهد والحاكم بل وكل مسلم أشد ضرورة إليه من الطعام والشراب والنفس، وبالله التوفيق.
فصل: ومنها قوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور.
حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق) (244) فتأمل هذا المثل ومطابقته لحال من أشرك بالله وتعلق بغيره ويجوز لك في هذا التشبيه أمران: أحدهما أن تجعله تشبيها مركبا ويكون قد شبه من أشرك بالله وعبد معه غيره
__________
(243) مسلم جنه 71، البخاري جنائز 67 وسنن أبى داود ومسند أحمد 3 / 233.
، 347، 445، 4 / 296 والترغيب والترهيب 4، 125 / 126 والطبري 13 / 215 / 216.
(244) الحج: 30، 31 انظر تفسير الكشاف 3 / 12.



برجل قد تسبب إلى هلاك نفسه هلاكا لا يرجى معه نجاة فصور حاله بصورة من خر من السماء فاختطفه الطير في الهوى فتمزق مزعا (245) في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت في بعض المطارح البعيدة وعلى هذا لا ينظر إلى كل فرد من أفراد الشبه ومقابلته من المشبه به.
والثاني أن يكون من التشبيه المفرق فيقابل كل واحد من أجزاء الممثل بالممثل به وعلى هذا فيكون قد شبه الإيمان (246) والتوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه، فمنها يهبط إلى الأرض وإليها يصعد منها وشبه تارك الإيمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث التضييق الشديد والآلام المتراكمة والطير الذي يخطف (247) أعضاءه ويمزقه فقال كل ممزق بالشياطين التي يرسلها الله سبحانه وتعالى عليه تؤزه أي أزا وتزعجه وتقلقه إلى مظان هلاكه، فكل شيطان له مزعة من دينه وقلبه كما أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه، والريح التي تهوي به في مكان سحيق (248) هو هواه الذي يحمله القاء نفسه في أسفل مكان وأبعده من السماء.
فصل: ومنها قوله تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب.
وما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز) (249) حقيق كل عبد أن يستمع (250) لهذا
__________
(245) في ع (فتقذمزقا) في م (فتمزق مزقا).
(246) انظر معارج القبول للشيخ الحكمى والعقيدة الطحاوية للامام الطحاوي ودعوة التوحيد والادوار التى بها د.
خليل هراس طبعتنا.
(247) في ع (والطير التى تتخظف).
(248) سحيق (بعيد الاغوار) ترتيب قاموس المحيط 2 / 530.
(249) الحج، 73: 74 انظر تفسير الزمخشري 2 / 530.
(250) في م، ع (يستمع قلبه).



المثل ويتدبره حق تدبره فإنه يقطع موارد (251) الشرك من قلبه، وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده وإعدام ما يضره والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن (252) تقدر على خلق ذباب (253) ولو اجتمعوا كلهم لخلقه فكيف ما هو أكبر منه ولا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئا مما عليهم من طيب ونحوه فيستنقذونه منه فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوان ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه فلا أعجز من هذه الآلهة ولا أضعف منها فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله تعالى، وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله سبحانه في بطلان الشرك وتجهيل أهله وتقبيح عقولهم والشهادة على أن الشياطين قد تتلاعب (254) بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة حيث أعطوا الإلهية التي من بعض لوازمها القدرة على جميع المقدورات والإحاطة بجميع المعلومات والغنى عن جميع المخلوقات وأن يعمد (255) إلى الرب في جميع الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإجابة الدعوات فأعطوها صورا وتماثيل تمتنع عليها القدرة على مخلوقات الآلهة (256) الحق وأذلها وأصغرها وأحقرها ولو اجتمعوا لذلك وتعاونوا عليه، وأدل من ذلك على
عجزهم وانتفاء آلهتهم أن هذا الخلق الأقل الأذل العاجز الضعيف لو اختطف منهم شيئا واستلبه فاجتمعوا على أن يستنقذوه منه لعجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه ثم سوى بين العابد والمعبود في الضعف والعجز بقوله: (ضعف الطالب
__________
(251) في م، ع (مواد) والشرك الضلال والغى والتمادى به ترتيب القاموس المحيط 2 / 704.
(252) في ع (لا تقدر).
(253) في ع (الذباب).
(254) في ع، م (أن الشيطان قد تلاعب بهم) والشيطان كل عات متمرد من أنس وجن أو دابه 2 / 304 تريب القاموس المحيط.
(255) في م، ع (وأن يصمد).
(256) في ع (يمتنع عليها القدرة على أقل مخلوقات الاله الحق) وفى م (أفل مخلوقات الاله).



والمطلوب) قيل: الطالب العابد والمطلوب المعبود (257) فهو عاجز متعلق بعاجز، وقيل: هو تسوية بين السالب والمسلوب وهو تسوية بين الإله والذباب في الضعف والعجز وعلى هذا (258) فالطالب الإله الباطل والمطلوب الذباب يطلب منه ما استنقذه (259) منه، وقيل الطالب الذباب والمطلوب الآلهة (260) فالذباب يطلب منه ما يأخذه مما عليه، والصحيح أن اللفظ يتناول الجميع فضعف العابد والمعبود والمستلب والمستلب (261) فمن جعل هذا الآلهة مع القوي العزيز، فما قدره حق قدره ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق عظمته (262) فصل: ومنها قوله تعالى: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما
لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون) (263).
فتضمن هذا المثل ناعقا أي مصوتا بالغنم وغيرها ومنعوقا ثنا به (264) وهو الدواب فقيل: الناعق العابد وهو الداعي للصنم والصنم هو المنعوق به المدعو وإن حال الكافر في دعائه كحال من ينعق بما لا يسمعه هذا قول طائفة منهم عبد الرحمن بن زيد وغيره (265) واستشكل صاحب الكشاف (266) وجماعة معه هذا القول وقالوا: (قوله إلا دعاء ونداء) لا يساعد عليه لأن الأصنام لا تسمع دعاء ولا نداء (267)، وقد أجيب عن هذا الاشكال (268) بثلاثة
__________
(257) زاد المسير 5 / 452 والبغوى والخازن 5 / 38.
(258) في م، ع (فقيل الطالب).
(259) في م (ما استلبه منه).
(260) تفسير الطبري 17 / 203.
(261) مذيره في م، ع.
(262) في ع، م (تعظيمه).
(263) سوره البقرة: 171 انظر الزمخشري 3 / 328.
(264) في ع (ومنعوقا).
(265) هو عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوى القرشى انظر تهذيب التهذيب 6 / 179.
(266) راجع كشف الظنون 2 / 1475.
(267) تفسير الكشاف 1 / 250.
(268) في ع (الاستشكال).



أجوبة: أحدها أن زائدة، والمعنى بما لا يسمع دعاء ونداء قالوا وقد ذكر الأصمعي في قول الشاعر: (269)
(جراجيج به لا تنفعك إلا مناخة).
أي متنفك مناخة، وهذا جواب فاسد فإن (إلا) لا تزاد في الكلام.
الجواب الثاني: أن التشبيه وقع في مطلق الدعاء لا في خصوصات المدعو الجواب الثالث: أن المعنى أن مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم هذا كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع بنعقته (270) ثم شيئا غير أنه في (271) دعاء ونداء وكذا (272) المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلا العناء، وقيل: المعنى ومثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه مما يقول الراعي أكثر من الصوت، فالراعي هو داعي الكفار والكفار هم البهائم المنعوق بها (273) قال سيبويه (274): المعنى.
ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به) وعلى قوله فيكون المعنى ومثل الذين كفروا وداعيهم (275) كمثل الغنم والناعق بها ذلك أن تجعل هذا من التشبيه المركب وأن تجعله من التشبيه المفرق، فإن جعلته من المركب كان تشبيها للكفار في عدم فقههم (276) وانتفاعهم بالغنم التي ينعق بها الراعي فلا تفقه من قوله شيئا غير الصوت المجرد الذي هو الدعاء والنداء وإن جعلته من التشبيه المفرق فالذين
__________
(269) ديوان ذى الرمة 3 / 1419 وانظر الموشح: 182 وتمام البيت (على الخسف أو نرمى بها بلدا قفرا).
(270) في م (من نعيقه بشئ) وفى ع (من نعقه بغنمه).
(271) في م (انه هو في).
(272) في م (وكذلك).
(273) انظر امالي المرتصى: 1 / 215 - 218.
(274) صاحب كتاب اللغه المشهور 1 / 108، 109 (والنص أنما المعنى مثلكم).
(275) في ع (ودعائهم).
(276) في ع (تفقههم).



كفروا بمنزلة البهائم ودعاؤهم إلى الطريق (277) والهدى بمنزلة النعيق وإدراكهم مجرد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرد صوت الناعق والله أعلم.
فصل: ومنها قوله تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشآء والله واسع عليم) (278) شبه سبحانه نفقة المنفق في سبيله سواء كان المراد به الجهاد أو جميع سبل الخير من كل بر بمن بذر بذرا فأنبتت كل حبة سبع سنابل اشتملت كل سنبلة على مائة حبة والله يضاعف (279) بحسب حال المنفق وإيمانه وإخلاصه واحسانه ونفع نفقته وقدرها ووقوعها موقعها فان ثواب الانفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من الايمان والاخلاص (والتثبت) (280) عند النفقة وهو اخراج المال بقلب ثابت قد انشرح صدره باخراجه وسمحت به نفسه وخرج من قلبه قبل خروجه من يده فهو ثابت القلب عند اخراجه غير جزع ولا هلع ولا متبعه نفسه ترجف يده وفؤاده، ويتفاوت بحسب نفع الإنفاق ومصارفه بمواقعه وبحسب طيب المنفق وذكائه (281) وتحت هذا المثل من الفقه: أنه سبحانه شبه الانفاق بالبذر فالمنفق ماله الطيب لله لا لغيره باذر ماله في أرض زكية فمغلة بحسب بذرة وطيب أرضه وتعاهد البذر بالسقي ونفي الدغل (282) والنبات الغريب عنه فإذا اجتمعت هذه الأمور ولم تحرق الزرع نار ولا لحقته جائحة (283) جاء أمثال الجبال وكان مثله كمثل حبة بربوة وهي المكان فيه نصب (284)
__________
(277) كلمة (الطريق) غير موجودة في م.
(278) سورة البقرة: 261 وانظر تفسير الكشاف 1 / 393.
(279) في م (يضاعف لمن يشاء فوق ذلك بحسب) وفى ع (لمن يشاء بحسب).
(280) زيادة من م، ع.
(281) في م (زكاته) وفى ع (وزكائه).
(282) الدغل: محركة: دخل في الامر مفسد والشجر الكثير الملتف النبت وكثرته 2 / 190 من ترتيب القاموس المحيط.
(283) منه الجائحه للشده المحتاجة للحال ترتيب القاموس 1 / 552.
(284) (يكون في نصب الشمس) وفى م (تكون الجنة نصب).



الشمس والرياح فتربى (285) الأشجار هناك أتم تربية فنزل عليها من السماء مطر عظيم القطر متتابع فرواها ونماها فآتت أكلها ضعفي ما تؤتيه غيرها بسبب ذلك الوابل وإن لم يصبها وابل (286) فطل مطر صغير القطر (287) يكفيها لكرم منبتها تزكو على الطل وتنمي عليه مع أن في ذكر نوعي الوابل والطل إشارة إلى نوعي الإنفاق الكثير والقليل فمن الناس من يكون إنفاقه وابلا ومنهم من يكون إنفاقه طلا والله لا يضيع مثقال ذرة فإن عرض لهذا (288) العامل ما يفرق أعماله ويبطل (289) بها حسناته كان بمنزلة رجل له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار وله فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت فإذا كان يوم استيفاء الأعمال وإحراز الأجور وجد (290) العامل عمله قد أصابه ما أصاب صاحب هذه الجنة فحسرته حينئذ أشد من حسرة هذا على جنته فهذا مثل ضربه الله سبحانه في الحسرة لسلب النعمة عند شدة الحاجة إليها مع عظم قدرها ومنفعتها والذي ذهبت عنه قد أصابه الكبر والضعف فهو أحوج ما كان إلى نعمته ومع هذا فله ذرية ضعفاء لا يقدرون على نفعه والقيام بمصالحه بل هم في عياله فحاجته إلى نعمته حينئذ أشد ما كانت لضعفه وضعف ذريته فكيف يكون حال هذا إذا
كان له بستان عظيم فيه من جميع الفواكه والثمر وسلطان ثمره أجل الفواكه وأنفعها وهو ثمر النخيل والأعناب فنخله (291) يقوم بكفايته وكفاية ذريته فأصبح يوما وقد وجده محترقا كله كالصريم فأي حسرة أعظم * (ههامش) 8 (285) في ع (فتتزين).
(286) الوابل (المطر الشديد القاس العاتى).
(287) في الاصل، القدر.
(288) في ع (هذا).
(289) في ع، م (يبطل حسناته).
(290) في ع، م (هذا).
(291) في ع، م (فمغله)

من حسرته، قال ابن عباس: (292) هذا مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عمره، وقال مجاهد (293): هذا مثل المفرط في طاعة الله حتى يموت)، وقال السري (294): هذا مثل للمرائي في نفقته الذي ينفق لغير الله ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليها، وسأل عمر بن الخطاب الصحابة رضي الله عنهم يوما عن هذه الآية فقالوا: الله أعلم فغضب عمر وقال: قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شئ يا أمير المؤمنين قال: قل يا ابن أخي ولا تحصر نفسك، قال: (ضرب مثل لعمل)، قال: لأي عمل ؟ قال (لرجل غنى يعمل بالحسنات ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله كلها (295)، وقال الحسن (296): هذا مثل قل والله أعلم من يعقله من الناس شيخ ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا).
فصل: فإن عرض لهذه الأعمال من الصدقات ما يبطلها من المن (297) والأذى والرياء فالرياء يمنع انعقادها سببا للثواب والمن والأذى يبطل الثواب الذي كان سببا له فمثل صاحبها وبطلان عمله كمثل (صفوان) وهو الحجر الأملس عليه تراب فأصابه وابل وهو المطر الشديد فتركه صلدا لا شئ عليه وتأمل جزاء هذا المثل البليغ وانطباقها على أجزاء الممثل به تعرف عظمة القرآن وجلالته فإن الحجر في مقابلة قلب هذا المرائي والمان والمؤذي فقلبه في
__________
(292) انظر الدر المنثور 10 / 340 والطبري 3 / 76.
(293) انظر الطبري 3 / 75 والدر المنثور 1 / 340 وزاد المسير 1 / 321.
(294) قال السدى هو اسماعيل بن عبد الرحمن توفى سنة 128 ه انظر النجوم الزاهرة 1 / 308 واللباب 1 / 537.
(295) البخاري 3 / 78 والطبري 3 / 76.
(296) انظر تفسير الطبري 3 / 77.
(297) المن: من عليه منا: أي أنعم واصطنع عنده صنيعة ومنحة ومنحه المن.



قسوته عن الإيمان والإخلاص (والإحسان) (298) بمنزلة الحجر، والعمل الذي (299) لغير الله بمنزلة التراب الذي على ذلك الحجر فقوة ما تحته وصلابته تمنعه من الثبات والنبات (300) عند نزول الوابل فليس له مادة متصلة بالذي يقبل الماء وينبت الكلأ وكذلك قلب المرآئي ليس له ثبات عند وابل الأمر والنهي والقضاء والقدر فإذا نزل عليه وابل الوحي انكشف عنه ذلك التراب اليسير الذي كان عليه فبرز ما تحته حجرا صلدا لا نبات فيه، وهذا مثل ضربه الله سبحانه لعمل المرآئي ونفقته لا يقدر يوم القيامة على ثواب شئ منه أحوج ما كان إليه وبالله التوفيق (301).
فصل: ومنها قوله تعالى: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته.
وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون (302)) هذا مثل ضربه الله تعالى لمن أنفق ماله في غير طاعته ومرضاته فشبه سبحانه ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر لا يبتغون (303) به وجه الله وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله واتباع رسله عليهم الصلاة والسلام بالزرع الذي زرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره فأصابته ريح شديدة البرد جدا يحرق بردها ما يمر عليه من الزرع والثمار فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته
__________
(298) زيادة في م، ع.
(299) في م، ع (الذى عمله لغير الله).
(300) في م، ع (من النبات والثبات).
(301) يلاحظ ان الاية التالية أذا أضيفت الى الشرح السابق تمم المعنى والمراد.
(302) سورة آل عمران: 116، 117.
(303) في م، ع (يبتغون).



واختلف في الصر فقيل: البرد الشديد (304) وقيل: النار (305) قاله ابن عباس، وقال الأنباري (306): وإنما وصفت النار أنها صر لتصريتها عند الالتهاب، وقيل: الصر (307) الصوت الذي يصحب الريح من شدة هبوبها (308)، والأقوال الثلاثة متلازمة فهو برد شديد محرق بيبسه للحرث كما تحرق النار وفيه صوت شديد وفي قوله: (أصابت حرث قوم ظلموا
أنفسهم) تنبيه على أن سبب إصابتها لحرثهم هو ظلمهم فهو الذي سلط عليهم الريح المذكورة حتى أهلكت زرعهم وأيبسته، فظلمهم هو الريح التي أهلكت أعمالهم ونفقاتهم وأتلفتها.
فصل: ومنها قوله تعالى: (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) (309) هذا مثل ضربه الله سبحانه للمشرك والموحد، فالمشرك بمنزلة عبد تملكه جماعة (310) مشتركين في خدمته لا يمكنه رضاهم أجمعين، والموحد لما كان يعبد الله وحده فمثله كمثل عبد رجل واحد قد سلم له وعلم مقاصده (وعرف الطريق) (311) إلى رضاه فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه بل هو سالم لمالكه من غير منازع فيه مع رأفة مالكه به ورحمته له وشفقته عليه وإحسانه إليه وتوليته بمصالحه (312) فهل يستوي هذان العبدان، وهذا
__________
(304) مجاز القرآن 102 والطبري 4 / 59 والبغوى 1 / 408.
(305) انظر لسان العرب مادة (صر) وابن كثير 1 / 397.
(306) هو القاسم بن محمد بن بشار الانباري أبو محمد له اهتمام بالادب والاخبار راجع مفتاح السعادة 1 / 146 وزاد المسير 1 / 445.
(307) انظر تفسير الكشاف 1 / 456، 457.
(308) انظر تفسير القرطبى 34 / 178 وفتح القدير 1 / 374.
(309) سورة الزمر: 29 انظر ابن كثير 2 / 158 والكشاف 3 / 397.
(310) في م (جماعة متنازعون مختلفون متشاحنون والرجال المتشاكس: الصنيق الخلق).
(311) زيادة من م، ع.
(312) في ع، م (توليد مصالحه).



منه أبلغ الأمثال فإن الخالص لمالك واحد مستحق (313) من معونته وإحسانه والتفاته إليه وقيامه بمصالحه ما لا يستحقه صاحب الشركاء المتشاكسين، (الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون).
فصل: ومنها قوله تعالى: (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين.
وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين.
ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين) (314) فاشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال: مثل للكافر (315) ومثلين للمؤمنين: فتضمن مثل الكفار أن الكافر يعاتب على كفره وعداوته لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأوليائه ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب أو وصلة صهر أو سبب من سبب الاتصال (316)، فان الأسباب (كلها) (317) تنقطع يوم القيامة إلا ما كان منها متصلا بالله وحده على أيدي (318) رسله عليهم الصلاة والسلام فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة والنكاح مع عدم الايمان لنفعت الصلة (319) التي كانت بين نوح ولوط (320) عليهما الصلاة والسلام وامرأتيهما فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئا
__________
(313) في ع، م (تستحق).
(314) سورة التحريم: 10، 11، 12 انظر تفسير ابن كثير 2 / 525 والكشاف 4 / 130، 131 وكتاب في القرآن لمنير القاضى ص 27.
(315) في م (الكفار) وفى ع (للكافرين).
(316) في م، ع (أسباب).
(137) زيادة من م، ع.
(318) في ع (على يد رسول).
(139) الوصلة والصلة القرابة والتشابه ترتيب القاموس 2 / 210.
(320) في م (لوط ونوح) والكامل في التاريخ 1 / 7.



وقيل لهما ادخلا النار مع الداخلين فقطعت الآية حينئذ طمع من ارتكب معصية الله تعالى وخالف أمره ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي ولو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال: فلا اتصال فوق اتصال النبوة والأبوة والزوجية ولم يغن نوح عليه الصلاة والسلام عن ابنه ولا إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن أبيه ولا نوح ولوط عليهما الصلاة والسلام عن امرأتيهما من الله شيئا، قال الله تعالى: (لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم) (321) وقال تعالى: (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله) (322)، وقال تعالى: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا) (323) وقال تعالى: (واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا) (324) وهذا كله تكذيب لأطماع المشركين الباطلة أن من تعلقوا به من دون الله من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة تنفعهم يوم القيامة أو تجيرهم ولا من عذاب الله تعالى أو تشفع لهم عند الله تعالى وهذا أصل ضلال بني آدم وشركهم وهو الشرك الذي لا يغفره الله، وهو الذي بعث الله تعالى جميع رسله عليهم الصلاة والسلام وأنزل جميع كتبه بإبطاله ومحاربة أهله ومعاداتهم.
فصل: وأما المثلان اللذان للمؤمنين فأحدهما امرأة فرعون (325)، ووجه المثل: أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئا إذا فارقه في كفره وعمله
فمعصية العاصي لا تضر المطيع شيئا في الآخرة وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر الله عز وجل فتأتي عامة فلم يضر
__________
(321) سورة الممتحنة: 3.
(322) سورة الانفطار: 19.
(323) سورة البقرة: 123.
(324) سورة لقمان: 33.
(325) انظر تفسير ابن كثير 3 / 124 والكشاف 4 / 131 والأمثال لمنير ص 27.



امرأة فرعون اتصالها به وهو من أكفر الكافرين ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما وهما رسولا رب العالمين.
المثل الثاني للمؤمنين: مريم التي لا زوج لها، لا مؤمن ولا كافر فذكر ثلاثة أصناف النساء: المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر والمرأة العزبة التي لا وصلة بينها وبين أحد، فالأولى لا تنفعها وصلتها وسببها والثانية لا تضرها وصلتها وسببها، والثالثة لا يضرها عدم الصلة شيئا (326) ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير من تظاهرهن عليه وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويردن الدار الآخرة لم ينفعهن اتصالهن برسول الله صلى الله عليه وسلم كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما، ولهذا (327) ضرب لهما في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة، قال يحيى بن سلام (328): (ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة (329) وحفصة (330) ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة وفي ضرب المثل للمؤمنين (بمريم) (331) أيضا اعتبار آخر وهو أنها لم يضرها عند الله شيئا قذف أعداء الله تعالى اليهود (لها) (332) ونسبتهم إياها وابنها إلى
ما برأهما الله عنه مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين فلا يضر
__________
(326) الخازن 7 / 123.
(327) في م، ع (ولهذا إنما ضرب في هذه الصورة).
(328) يحيى بن سلام بن أبى ثعلبة التميمي مفير فقيه عالم بالحديث واللغة - له التفسير ومصنفات أخرى توفى سنة 200 ه وانظر زاد المسير 8 / 315.
(329) انظر الإصابة في تمييز الصحابة 4 / 459.
(330) انظر الإصابة في تمييز الصحابة 373 / 374.
(331) زائدة من أعلام الموقعين، ع.
(332) زيادة من م، ع.



الرجل الصالح قذف (333) الفجار والفساق فيه وفي هذا تسلية لعائشة (334) أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك وتوطين نفسها على ما قال فيها الكاذبون إن كانت قبلها كما في التمثيل (335) بامرأة نوح ولوط تحذير لها ولحفصة مما اعتمدتاه في حق النبي صلى الله عليه وسلم فتضمنت هذه الأمثال التحذير لهن والتخويف والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكذب عليه، وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه ولا سيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون.

كتاب:الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية


كتاب:الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية

بعض أغلاط الناس في مفهوم الأمر بالمعروف ]
وهنا يغلط فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلاً لهذه الآية ؛ كما قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في خطبته : إنكم تقرؤون هذه الآية : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } . وإنكم تضعونها في غير موضعها ، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منها » .

والفريق الثاني : من يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقاً من غير فقه وحلم وصبر ونظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح ، وما يقدر عليه وما لا يقدر ، كما في حديث أبي ثعلبة الخشني : سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحّاً مطاعاً وهوى متبعاً وديناً مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، ورأيت أمراً لا يدان لك به ، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام ، فإن من ورائك أيام الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر ، للعامل فيهن كأجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله » ، فيأتي بالأمر والنهي معتقداً أنه مطيع في ذلك لله ورسوله وهو معتد في حدوده ، كما انتصب كثير من أهل البدع والأهواء ؛ كالخوارج والمعتزلة والرافضة ؛ وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي والجهاد على ذلك ، وكان فساده أعظم من صلاحه ، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة ، ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة ، وقال: « أدوا إليهم حقوقهم ، وسلوا الله حقوقكم » . وقد بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع .

ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة وترك القتال في الفتنة ، وأما أهل الأهواء - كالمعتزلة - فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم ، ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة : " التوحيد " الذي هو سلب الصفات ، " والعدل " الذي هو التكذيب بالقدر ، و " المنزلة بين المنزلتين " و " إنفاذ الوعيد " و " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " الذي منه قتال الأئمة . وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع .

وجماع ذلك داخل في " القاعدة العامة " : فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت ، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد ، وتعارضت المصالح والمفاسد . فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له ، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به ، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته ، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها ، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر ، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام .

[
حكم من يجمع بين المعروف والمنكر ]
وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما ، بل إما أن يفعلوهما جميعاً ، أو يتركوهما جميعاً : لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر ، بل ينظر : فإن كان المعروف أكثر أمر به ، وإن استلزم ماهو دونه من المنكر .
ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه ؛ بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسول وزوال فعل الحسنات ، وإن كان المنكر أغلب نهي عنه ، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف ، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر وسعياً في معصية الله ورسوله .
وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما . فتارة يصلح الأمر ، وتارة يصلح النهي ، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين ؛ وذلك في الأمور المعينة الواقعة .
وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقاً وينهى عن المنكر مطلقاً .

وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها ، ويحمد محمودها ويذم مذمومها ، بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه ، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه ، أو فوات معروف أرجح منه .
وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق ، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية، وإذا تركها كان عاصياً ، فترك الأمر الواجب معصية ، وفعل ما نهى عنه من الأمر معصية . وهذا باب واسع ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ومن هذا الباب إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أُبي وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان ، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزم إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم ، وبنفور الناس في قصة الإفك بما خاطبهم به واعتذر منه ، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه : حمى له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه.

وأصل هذا أن تكون محبة الإنسان للمعروف وبغضه للمنكر ، وإرادته لهذا ، وكراهته لهذا : موافقة لحب الله وبغضه ، وإرادته وكراهته الشرعيين . وأن يكون فعله للمحبوب ودفعه للمكروه بحسب قوته وقدرته ، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ، وقد قال: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } ( التغابن: من الآية 16) .
فأما حب القلب وبغضه وإرادته وكراهيته فينبغي أن تكون كاملة جازمة ، لا يوجب نقص ذلك إلا نقص الإيمان . وأما فعل البدن فهو بحسب قدرته ، ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل العبد معها بحسب قدرته : فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل ، كما قد بيناه في غير هذا الموضع ، فإن من الناس من يكون حبه وبغضه وإرادته وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها ، لا بحسب محبة الله ورسوله وبغض الله ورسوله ، وهذا من نوع الهوى ، فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } (القصص: من الآية 50)

[
أثر الهوى في الاحتساب ]
فإن أصل الهوى محبة النفس ، ويتبع ذلك بغضها ، ونفس الهوى - وهو الحب والبغض الذي في النفس - لايلام عليه ، فإن ذلك قد لايملك ، وأنها يلام على اتباعه كما قال تعالى : { يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (ص: من الآية 26) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « ثلاث منجيات : خشية الله في السر والعلانية ، والقصد في الفقر والغنى ، وكلمة الحق في الغضب والرضا . وثلاث مهلكات: شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه » .

والحب والبغض يتبعه ذوق عند وجود المحبوب والمبغض ، ووجد وإرادة ، وغير ذلك ، فمن اتبع ذلك بغير أمر الله ورسوله فهو ممن اتبع هواه بغير هدي من الله ، بل قد يصعد به الأمر إلى أن يتخذ إلهه هواه ، واتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات ، فإن الأول حال الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين كما قال تعالى: { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } (القصص: من الآية 50) وقال تعالى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ } (الروم: من الآية 28) إلى أن قال : { بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } (الروم: من الآية 29) وقال تعالى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } (الأنعام: من الآية 119) ، وقال الله تعالى : { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي

دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } (المائدة:77) .
وقال تعالى : { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } (البقرة:120). وقال تعالى : { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } (البقرة: من الآية 145) وقال تعالى : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } (المائدة: من الآية 49).

ولهذا كان من خرج عن موجب الكتاب والسنة من العلماء والعباد يجعل من أهل الأهواء كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء ، وذلك أن كل من لم يتبع العلم فقد اتبع هواه والعلم بالدين لا يكون إلا بهدي الله الذي بعث به رسوله ولهذا قال تعالى: { وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } (الأنعام: من الآية 119) وقال في موضع آخر : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } (القصص: من الآية 50).
فالواجب على العبد أن ينظر في نفس حبه وبغضه ، ومقدار حبه وبغضه : هل هو موافق لأمر الله ورسوله ؟ وهو هدي الله الذي أنزله على رسوله ، بحيث يكون مأموراً بذلك الحب والبغض ، لا يكون متقدماً فيه بين يدي الله ورسوله ، فإنه قد قال: { لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (الحجرات: من الآية 1) .

ومن أحب أو أبغض قبل أن يأمره الله ورسوله ففيه نوع من التقدم بين يدي الله ورسوله . ومجرد الحب والبغض هوى ، لكن المحرم اتباع حبه وبغضه بغير هدي من الله ولهذا قال تعالى: { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } (صّ: من الآية 26) فأخبر أن من اتبع هواه أضله ذلك عن سبيل الله وهو هداه الذي بعث به رسوله وهو السبيل إليه .
فضل الأمر بالمعروف وآدابه ]
وتحقيق ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها وقد قال تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } (الملك: من الآية 2). وهو كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله : أخلصه وأصوبه .
فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً والخالص : أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة ، فالعمل الصالح لا بد أن يراد به وجه الله تعالى ، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه وحده ؛ كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يقول الله أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه ، وهو كله للذي أشرك » .

وهذا هو التوحيد الذي هو أصل الإسلام وهو دين الله الذي بعث به جميع رسله وله خلق الخلق ، وهو حقه على عباده : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ولابد مع ذلك أن يكون العمل صالحاً ، وهو ما أمر الله به ورسوله ، وهو الطاعة فكل طاعة عمل صالح وكل عمل صالح طاعة وهو العمل المشروع المسنون إذ المشروع المسنون هو المأمور به أمر إيجاب أو استحباب وهو العمل الصالح ، وهو الحسن ، وهو البر ، وهو الخير ، وضده المعصية والعمل الفاسد ، والسيئة ، والفجور والظلم .
ولما كان العمل لا بد فيه من شيئين: النية والحركة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أصدق الأسماء حارث وهمام » . فكل أحد حارث وهمام له عمل ونية ، لكن النية المحمودة التي يتقبلها الله ويثيب عليها : أن يراد الله بذلك العمل . والعمل المحمود : الصالح ، وهو المأمور به ، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه : اللهم اجعل عملي كله صالحاً ، واجعله لوجهك خالصاً ، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً .

وإذا كان هذا حد كل علم صالح ، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجب أن يكون هكذا في حق نفسه ، ولا يكون عمله صالحاً إن لم يكن بعلم وفقه ، وكما قال عمر بن عبد العزيز : من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح ، وكما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه : " العلم إمام العمل والعمل تابعه " . وهذا ظاهر فإن القصد والعمل إن لم يكن بعلم كان جهلاً وضلالاً واتباعاً للهوى كما تقدم ، وهذا هو الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الإسلام ، فلابد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما . ولا بد من العلم بحال المأمور والمنهي ، ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والنهي بالصراط المستقيم ، وهو أقرب الطرق إلى حصول المقصود .

ولابد في ذلك من الرفق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما كان الرفق في شيء إلا زانه ، ولا كان العنف في شيء إلا شانه » . وقال: « إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف » . ولابد أيضاً أن يكون حليماً صبوراً على الأذى : فإنه لا بد أن يحصل أذى ، فإن لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مما يصلح : كما قال لقمان لابنه : { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } (لقمان: من الآية 17).

ولهذا أمر الله الرسل - وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - بالصبر كقوله لخاتم الرسل ، بل ذلك مقرون بتبليغ الرسالة ، فإنه أول ما أرسل أنزلت عليه سورة : { يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } بعد أن أنزلت عليه سورة : اقرأ . التي بها نُبئ فقال: { يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }{ قُمْ فَأَنْذِرْ }{ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ }{ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ }{ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ }{ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ }{ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } (المدثر:1-7) فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالنذارة ، وختمها بالأمر بالصبر ، ونفس الإنذار أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، فعلم أنه يجب بعد ذلك الصبر وقال : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } (الطور: من الآية 48) وقال تعالى : { وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا } (المزمل:10) . { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } (الأحقاف: من الآية 35). { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } (القلم: من الآية 48) { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ } (النحل: من الآية 127) { وَاصْبِرْ

فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } (هود:115) .
فلابد من هذه الثلاثة : العلم ، الرفق ، الصبر . العلم قبل الأمر والنهي ، والرفق معه، والصبر بعده ، وإن كان كل من الثلاثة مستصحباً في هذه الأحوال ، وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعاً ، ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد : " لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهاً فيما يأمر به ، حليماً فيما ينهى عنه " .
وليعلم أن الأمر بهذه الخصال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يوجب صعوبة على كثير من النفوس ، فيظن أنه بذلك يسقط عنه ، فيدعه ، وذلك مما يضره أكثر مما يضره الأمر بدون هذه الخصال أو أقل ، فإن ترك الأمر الواجب معصية ، فالمنتقل من معصية إلى معصية كالمنتقل من دين باطل إلى دين باطل ، وقد يكون الثاني شراً من الأول ، وقد يكون دونه ، وقد يكونان سواء ، فهكذا تجد المقصر في الأمر والنهي والمتعدي فيه قد يكون ذنب هذا أعظم ، وقد يكون ذنب هذا أعظم ، وقد يكونان سواء .
آثار المعاصي

ومن المعلوم بما أرانا الله من آياته في الآفاق وفي أنفسنا وبما شهد به في كتابه : أن المعاصي سبب المصائب ، فسيئات المصائب والجزاء من سيئات الأعمال ، وإن الطاعة سبب النعمة ، فإحسان العمل سبب لإحسان الله ، قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } ( الشورى:30) وقال تعالى : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } (النساء: من الآية 79) وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } ( آل عمران: من الآية 155) وقال تعالى: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } (آل عمران: من الآية 165) وقال : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ } ( الشورى:34) وقال تعالى: { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ } (الشورى: من

الآية 48) وقال تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } (الأنفال:33) . وقد أخبر سبحانه بما عاقب به أهل السيئات من الأمم ، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط، وأصحاب مدين ، وقوم فرعون ، في الدنيا ، وأخبر بما يعاقبهم به في الآخرة , لهذا قال مؤمن آل فرعون : { يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ }{ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ }{ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ }{ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } (غافر:30-33). وقال تعالى : { كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } (القلم:33) وقال: { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } (التوبة: من الآية 101) وقال: { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ

لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (السجدة:21). وقال: { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } . .. إلى قوله : { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ } (الدخان:10-16) . ولهذا يذكر الله في عامة سور الإنذار ما عاقب به أهل السيئات في الدنيا وما أعده لهم في الآخرة ، وقد يذكر في السورة وعد الآخرة فقط ، إذ عذاب الآخرة أعظم ، وثوابها أعظم ، وهي دار القرار ، وإنما يذكر ما يذكره من الثواب والعذاب في الدنيا تبعاً ، كقوله في قصة يوسف : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }{ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } (يوسف:56-57). وقال تعالى : { فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (آل عمران:148) وقال : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا

يَعْلَمُونَ }{ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } (النحل:41-42). وقال عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } (العنكبوت: من الآية 27) . وأما ذكره لعقوبة الدنيا والآخرة ففي سورة : { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا }{ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا } ثم قال : { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ }{ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ } فذكر القيام مطلقاً ثم قال : { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى }{ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى }{ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } ، إلى قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } ثم ذكر المبدأ والمعاد مفصلاً فقال: { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا } إلى قوله : { فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى } .. إلى قوله : { فَأَمَّا مَنْ طَغَى }{ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا }{ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى }{ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى }{ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } إلى آخر السورة.

وكذلك في(المزمل) ذكر قوله: { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا }{ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا }{ وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا } . إلى قوله : { كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا }{ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا } . وكذلك في(سورة الحاقة ) ذكر قصص الأمم ، كثمود وعاد وفرعون ثم قال تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ }{ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } إلى تمام ما ذكره من أمر الجنة والنار. وكذلك في (سورة ن والقلم ) . ذكر قصة أهل البستان الذين منعوا حق أموالهم وما عاقبهم به، ثم قال : { كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } . وكذلك في ( سورة التغابن ) قال : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }{ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى

اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } ثم قال: { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } . وكذلك في ( سورة ق ) ذكر حال المخالفين للرسل ، وذكر الوعد والوعيد في الآخرة . وكذلك في ( سورة القمر) ذكر هذا وهذا . وكذلك في ( آل حم) مثل حم غافر ، والسجدة ، والزخرف ، والدخان ، وغير ذلك ، إلى غير ذلك مما لا يحصى . فإن التوحيد والوعد والوعيد هو أول ما أنزل ، كما في صحيح البخاري عن يوسف بن ماهك قال : إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إذ جاءها عراقي فقال : أي الكفن خير ؟ قالت : ويحك ! وما يضرك ؟ قال : يا أم المؤمنين ! أريني مصحفك . قالت : لم ؟ قال : لعلي أؤلف القرآن عليه ، فإنه يقرأ غير مؤلف ، قالت : وما يضرك أيه قرأت قبل ، إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع الخمر أبداً ، ولو نزل لا تزنوا لقالوا : لا ندع الزنا أبداً ، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم ، وإني لجارية ألعب : { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ

أَدْهَى وَأَمَرُّ } (القمر:46) . وما نزلت : (سورة البقرة ) و( النساء ) إلا وأنا عنده ، قال : فأخرجتَ له المصحف فأملت عليه آي السور. وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان فقد يذنب الرجل أو الطائفة ويسكت آخرون عن الأمر والنهي ، فيكون ذلك من ذنوبهم ، وينكر عليهم آخرون إنكاراً منهيا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم ، فيحصل التفرق والاختلاف والشر ، وهذا من أعظم الفتن والشرور قديماً وحديثاً ، إذ الإنسان ظلوم جهول ، والظلم والجهل أنواع ، فيكون ظلم الأول وجهله من نوع، وظلم كل من الثاني والثالث وجهلهما من نوع آخر وآخر. ومن تدبر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك ، ورأى أن ما وقع بين أمراء الأمة وعلمائها ومن دخل في ذلك من ملوكها ومشايخها ، ومن تبعهم من العامة من الفتن : هذا أصلها ، يدخل في ذلك أسباب الضلال والغي التي هي الأهواء الدينية والشهوانية ، وهي البدع في الدين والفجور في الدنيا ، وهي مشتركة : تعم بني آدم لما فيهم من الظلم والجهل ، فبذنب بعض الناس يظلم نفسه وغيره ، كالزنا واللواط وغيره ، أو شرب خمر أو ظلم في المال بخيانة أو سرقة أو غصب أو نحو ذلك . ومعلوم أن هذه المعاصي وإن كانت مستقبحة

مذمومة في العقل والدين فهي مشتهاة أيضاً ، ومن شأن النفوس أنها لا تحب اختصاص غيرها بها ، لكن تريد أن يحصل لها ما حصل له ، وهذا هو الغبطة التي هي أدنى نوعي الحسد ، فهي تريد الاستعلاء على الغير والاستئثار دونه ، أو تحسده وتتمنى زوال النعمة عنه وإن لم يحصل ، ففيها من إرادة العلو والفساد والاستكبار والحسد ما مقتضاه أنها تختص عن غيرها بالشهوات ؛ فكيف إذا رأت الغير قد استأثر عليها بذلك واختص بها دونها ؟ فالمعتدل منهم في ذلك الذي يحب الاشتراك والتساوي ، وأما الآخر فظلوم حسود . وهذان يقعان في الأمور المباحة والأمور المحرمة لحق الله ، فما كان جنسه مباحاً من أكل وشرب ونكاح ولباس وركوب وأموال : إذا وقع فيها الاختصاص حصل الظلم والبخل والحسد ، وأصلها الشح ، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إياكم والشح ، فإنه أهلك من كان قبلكم : أمرهم بالبخل فبخلوا ، وأمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا » . ويقال : الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم » . فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان

مغفوراً له مرحوماً في الآخرة ، وذلك أن العدل نظام كل شيء ، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة ، فالنفس فيها داعي الظلم لغيرها بالعلو عليه والحسد له ، والتعدي عليه في حقه . وداعي الظلم لنفسها بتناول الشهوات القبيحة كالزنا وأكل الخبائث . فهي قد تظلم من لا يظلمها ، وتؤثر هذه الشهوات وإن لم تفعلها ، فإذا رأت نظراءها قد ظلموا وتناولوا هذه الشهوات صار داعي هذه الشهوات أو الظلم فيها أعظم بكثير ، وقد تصبر ، ويهيج ذلك لها من بغض ذلك الغير وحسده وطلب عقابه وزوال الخير عنه مالم يكن فيها قبل ذلك ، ولها حجة عند نفسها من جهة العقل والدين ، يكون ذلك الغير قد ظلم نفسه والمسلمين ، وأن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر واجب ، والجهاد على ذلك من الدين . والناس هنا ثلاثة أقسام : قوم لا يقومون إلا في أهواء نفوسهم ، فلا يرضون إلا بما يعطونه ، ولا يغضبون إلا لما يحرمونه ، فإذا أعطي أحدهم ما يشتهيه من الشهوات الحلال والحرام زال غضبه وحصل رضاه ، وصار الأمر الذي كان عنده منكراً ينهى عنه ويعاقب عليه ، ويذم

صاحبه ويغضب عليه مرضياً عنده ، وصار فاعلاً له وشريكاً فيه ، ومعاوناً عليه ، ومعادياً لمن نهى عنه وينكر عليه ، وهذا غالب في بني آدم ، يرى الإنسان ويسمع من ذلك مالا يحصيه ، وسببه: أن الإنسان ظلوم جهول ، فلذلك لا يعدل ، بل ربما كان ظالماً في الحالين ، يرى قوماً ينكرون على المتولي ظلمه لرعيته واعتدائه عليهم ، فيرضى أولئك المنكرين ببعض الشيء فينقلبون أعواناً له ، وأحسن أحوالهم أن يسكتوا عن الإنكار عليه ، وكذلك تراهم ينكرون على من يشرب الخمر ويزني ويسمع الملاهي ، حتى يدخلوا أحدهم معهم في ذلك ، أو يرضوه ببعض ذلك ، فتراه قد صار عوناً لهم ، وهؤلاء قد يعودون بإنكارهم إلى أقبح من الحال التي كانوا عليها ، وقد يعودون إلى ما هو دون ذلك أو نظيره .

وقوم يقومون ديانة صحيحة ، يكونون في ذلك مخلصين لله ، مصلحين فيما عملوه ، ويستقيم لهم ذلك حتى يصبروا على ما أوذوا ، وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وهم من خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويؤمنون بالله . وقوم يجتمع فيهم هذا وهذا وهم غالب المؤمنين ، فمن فيه دين وله شهوة تجتمع في قلوبهم إرادة الطاعة وإرادة المعصية ، وربما غلب هذا تارة وهذا تارة . وهذه القسمة الثلاثية كما قيل : الأنفس ثلاث : أمارة ، ومطمئنة ، ولوامة ، فالأولون هم أهل الأنفس الأمارة التي تأمره بالسوء ، والأوسطون هم أهل النفوس المطمئنة التي قيل فيها : { يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ }{ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً }{ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي }{ وَادْخُلِي جَنَّتِي } ، والآخرون هم أهل النفوس اللوامة التي تفعل الذنب ثم تلوم عليه ، وتتلون : تارة كذا ، وتارة كذا ، وتخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً . ولهذا لما كان الناس في زمن أبي بكر وعمر اللذين أمر المسلمون بالاقتداء بهما كما قال صلى الله عليه وسلم : « اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » : أقرب عهداً بالرسالة وأعظم

إيماناً وصلاحاً ، وأئمتهم أقوم بالواجب وأثبت في الطمأنينة : لم تقع فتنة ، إذ كانوا في حكم القسم الوسط.

ولما كان في آخر خلافة عثمان وخلافة علي كثر القسم الثالث ، فصار فيهم شهوة وشبهة مع الإيمان والدين ، وصار ذلك في بعض الولاة وبعض الرعايا ، ثم كثر ذلك بعد ، فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدم من عدم تمحيص التقوى والطاعة في الطرفين ، واختلاطهما بنوع من الهوى والمعصية في الطرفين ، وكل منهما متأول أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وأنه مع الحق والعدل ، ومع هذا التأويل نوع من الهوى ، ففيه نوع من الظن وما تهوى الأنفس ، وإن كانت إحدى الطائفتين أولى بالحق من الأخرى . فلهذا يجب على المؤمن أن يستعين بالله ، ويتوكل عليه في أن يقيم قلبه ولا يزيغه ، ويثبته على الهدى والتقوى ، ولا يتبع الهوى ، كما قال تعالى : { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } (الشورى:15) . وهذا أيضاً حال الأمة فيما تفرقت فيه واختلفت في المقالات والعبادات

، وهذه الأمور مما تعظم بها المحنة على المؤمنين ، فإنهم يحتاجون إلى شيئين : إلى دفع الفتنة التي ابتليّ بها نظراؤهم من فتنة الدين والدنيا عن نفوسهم مع قيام المقتضى لها ، فإن معهم نفوساً وشياطين كما مع غيرهم ، فمع وجود ذلك من نظرائهم يقوى المقتضي عندهم ، كما هو الواقع ، فيقوى الداعي الذي في نفس الإنسان وشيطانهم ، وما يحصل من الداعي بفعل الغير والنظير فكم ممن لم يرد خيراً ولا شراً حتى رأى غيره - لا سيما إن كان نظيره - يفعله ففعله ! فإن الناس كأسراب القطا ، مجبولون على تشبه بعضهم ببعض.

وما في القرآن من
الحض على الجهاد والترغيب فيه وذم الناكلين عنه والتاركين له، كله ذم الجبن ، ولما كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم ، بين سبحانه أن من تولى عن الجهاد بنفسه أبدل الله به من يقوم بذلك، فقال: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ }{ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (التوبة:38-39) . وقال تعالى: { هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } (محمد:38). وبالشجاعة والكرم في سبيل الله فضلّ السابقين ، فقال: { لَا

يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } (الحديد:10).

وقد ذكر الجهاد بالنفس والمال في سبيله ومدحه في غير آية من كتابه ، وذلك هو الشجاعة والسماحة في طاعته سبحانه ، فقال: { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } (البقرة: من الآية 249). وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } (الأنفال:45-46). والشجاعة ليست هي قوة البدن ، وقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب ، وإنما هي قوة القلب وثباته ، فإن القتال مداره على قوة البدن وصنعته للقتال ، وعلى قوة القلب وخبرته به ، والمحمود منهما ما كان بعلم ومعرفة ، دون التهور الذي لا يفكر صاحبه ولا يميز بين المحمود والمذموم ، ولهذا كان القوي الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ، حتى يفعل ما يصلح ، فأما المغلوب حين غضبه فليس بشجاع ولا شديد . وقد تقدم أن جماع ذلك هو الصبر ، فإنه لا بد منه . والصبر صبران :صبر عند الغضب، وصبر عند

المصيبة ، كما قال الحسن : ما تجرع عبد جرعة أعظم من جرعة حلم عند الغضب ، وجرعة صبر عند المصيبة ، وذلك لأن أصل ذلك هو الصبر على المؤلم ، وهذا الشجاع الشديد الذي يصبر على المؤلم . والمؤلم إن كان مما يمكن دفعه أثار الغضب ، وإن كان مما لا يمكن دفعه أثار الحزن ، ولهذا يحمر الوجه عند الغضب لثوران الدم عند استشعار القدرة ، ويصفر عند الحزن لغور الدم عند استشعار العجز ، ولهذا جمع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما تعدون الرقوب فيكم ؟ قالوا : الرقوب الذي لا يولد له ، قال : ليس ذلك بالرقوب ! ولكن الرقوب الرجل الذي لم يقدم من ولده شيئاً ، ثم قال : ما تعدون الصرعة فيكم ؟ قلنا : الذي لا تصرعه الرجال فقال : ليس بذلك ولكن الصرعة الذي يملك نفسه عند الغضب » .فذكر ما يتضمن الصبر عند المصيبة والصبر عند الغضب ، قال الله تعالى في المصيبة : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }{ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } (البقرة:155 - 156) الآية . وقال تعالى في الغضب : { وَمَا

يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } (فصلت:35) وهذا الجمع بين صبر المصيبة وصبر الغضب نظير الجمع بين صبر النعمة وصبر المصيبة كما في قوله تعالى: { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ }{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ }{ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } (هود:9-11) . وقال تعالى : { لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } (الحديد:23) وبهذا وصف كعب بن زهير من وصفه من الصحابة المهاجرين حيث قال : لا يفرحون إذا نالت سيوفهم قوماً وليسوا مجازيع إذا نيلوا وكذلك قال حسان بن ثابت : لا يفخرون إن هم أصابوا من عدوهم وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع وقال بعض العرب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم : يغلب فلا يبطر ، ويُغلب فلا يضجر. ولما كان الشيطان يدعو الناس عند هذين النوعين إلى تعدي الحدود بقلوبهم وأصواتهم

وأيديهم ، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال لما قيل له وقد بكى لما رأى إبراهيم في النزع: أتبكي؟ أولم تنه عن البكاء؟ فقال : « إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير شيطان ، وصوت عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب ودعاء بدعوى الجاهلية » فجمع بين الصوتين .

وأما نهيه عن ذلك في المصائب فمثل قوله صلى الله عليه وسلم : « ليس منّا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى جاهلية » . وقال : « أنا بريء من الحالقة والصالقة والشاقة » . وقال : « ما كان من العين والقلب فمن الله وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان » . وقال : « إن الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا حزن القلب ، ولكن يعذب بهذا أو يرحم - وأشار إلى لسانه » . وقال : « من ينح عليه فإنه يعذب مما نيح عليه » . واشترط على النساء في البيعة أن لا ينحن ، وقال : « إن النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة درعاً من جرب وسربالاً من قطران » . وقال في الغلبة والمصائب والفرح : « إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته » . وقال : « إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان » . وقال: « لا تمثلوا ولا تغدروا ، ولا تقتلوا وليداً » . إلى غير ذلك مما أمر به في الجهاد من العدل وترك العدوان ، اتباعاً لقوله تعالى : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } (المائدة:8) وقوله تعالى : {

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } (البقرة:190). ونهى عن لبس الحرير وتختم الذهب ، والشرب في آنية الذهب والفضة ، وإطالة الثياب ، إلى غير ذلك من أنواع السرف والخيلاء في النعم ، وذم الذين يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ، وجعل فيهم الخسف والمسخ ، وقد قال الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } (النساء: من الآية 36) وقال عن قارون: { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } (القصص: من الآية 76) . وهذه الأمور الثلاثة مع الصبر عن الاعتداء في الشهوة هي جوامع هذا الباب .

وذلك أن الإنسان بين ما يحبه ويشتهيه ، وبين ما يبغضه ويكرهه ، فهو يطلب الأول بمحبته وشهوته ، ويدفع الثاني ببغضه ونفرته ، وإذا حصل الأول أو اندفع الثاني أوجب له فرحاً وسروراً ، وإن حصل الثاني أو اندفع الأول حصل له حزن ، فهو محتاج عند المحبة والشهوة أن يصبر عن عدوانهما ، وعند الغضب والنفرة أن يصبر عن عدوانهما ، وعند الفرح أن يصبر عن عدوانه ، وعند المصيبة أن يصبر عن الجزع منها ، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصوتين الأحمقين الفاجرين : الصوت الذي يوجب الاعتداء في الفرح حتى يصير الإنسان فرحاً فخوراً، والصوت الذي يوجب الجزع . وأما الصوت الذي يثير الغضب لله ، كالأصوات التي تقال في الجهاد من الأشعار المنشدة ، فتلك لم تكن بآلات ، وكذلك أصوات الشهوة في الفرح فرخص منها فيما وردت به السنة من الضرب بالدف في الأعراس والأفراح للنساء والصبيان . وعامة الأشعار التي تنشد بالأصوات لتحريك النفوس هي من هذه الأقسام الأربعة ، وهي التشبيب ، وأشعار الغضب والحمية ، وهي الحماسة والهجاء ، وأشعار المصائب كالمراثي، وأشعار النعم والفرح ، وهي المدائح . والشعراء جرت عادتهم أن يمشوا مع الطبع ، كما قال الله تعالى : {

أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ }{ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ } (الشعراء:225-226). ولهذا أخبر أنهم يتبعهم الغاوون ، والغاوي : هو الذي يتبع هواه بغير علم ، وهذا هو الغي ، وهو خلاف الرشد ، كما أن الضال الذي لا يعلم مصلحته هو خلاف المهتدي ، قال الله سبحانه وتعالى : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى }{ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي » . فلهذا تجدهم يمدحون جنس الشجاعة وجنس السماحة ، إذا عدم هذين مذموماً على الإطلاق، وأما وجودهما ، فبه تحصل مقاصد النفوس على الإطلاق ، لكن العاقبة في ذلك للمتقين ، وأما غير المتقين فلهم عاجلة لا عاقبة ، والعاقبة وإن كانت في الآخرة فتكون في الدنيا أيضاً ، كما قال تعالى لما ذكر قصة نوح ونجاته بالسفينة : { قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } . إلى قوله : { فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } (هود:48-49) . وقال : {

فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } (البقرة: من الآية 194) .
والفرقان : أن يحمد من ذلك ما حمده الله ورسوله ، فإن الله تعالى هو الذي حمده زين، وذمه شين ، دون غيره من الشعراء والخطباء وغيرهم، ولهذا « لما قال القائل من بني تميم للنبي صلى الله عليه وسلم : إن حمدي زين وذمي شين قال له : " ذلك لله » . والله سبحانه حمد الشجاعة والسماحة في سبيله ، كما في الصحيح عن أبي موسى قال : « قيل : يارسول الله الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حميّة ، ويقاتل رياء ، فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله » 0 وقد قال سبحانه : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } (البقرة: من الآية 193). وذلك أن هذا هو المقصود الذي خلق الخلق له ، كم قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذريات:56). فكل ما كان لأجل الغاية التي خلق لها الخلق كان محموداً عند الله، وهو الذي يبقى لصاحبه ، وهذه الأعمال الصالحات .

ولهذا كان الناس أربعة أصناف : من يعمل لله بشجاعة وسماحة ، فهؤلاء هم المؤمنون المستحقون للجنة ، ومن يعمل لغير الله بشجاعة وسماحة فهذا ينتفع بذلك في الدنيا وليس له في الآخرة من خلاق ، ومن يعمل لله لكن لا بشجاعة ولا سماحة ، فهذا فيه من النفاق ونقص الإيمان بقدر ذلك ، ومن لا يعمل لله وليس فيه شجاعة ولا سماحة ، فهذا ليس له دنيا ولا آخرة .

فهذه الأخلاق والأفعال يحتاج إليها المؤمن عموماً ، وخصوصاً في أوقات المحن والفتن الشديدة ، فإنهم يحتاجون إلى صلاح نفوسهم ودفع الذنوب عن نفوسهم عند المقتضى للفتنة عندهم ، ويحتاجون أيضاً إلى أمر غيرهم ونهيه بحسب قدرتهم ، وكل من هذين الأمرين فيه من الصعوبة ما فيه ، وإن كان يسيراً على من يسره الله عليه ، وهذا لأن الله أمر المؤمنين بالإيمان والعمل الصالح ، وأمرهم بدعوة الناس وجهادهم على الإيمان والعمل الصالح ، كما قال الله تعالى: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } (الحج:40-41) . وقال تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } (غافر:51). وكما قال : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } (المجادلة:21) . وكما قال : { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } (الصافات:173) .

ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يعرض به المرء للفتنة ، صار في الناس من يتعلل لترك ماوجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة ، كما قال عن المنافقين : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } الآية . وقد ذكر في التفسير أنها نزلت في الجد بن قيس لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم ، بالتجهز لغزو الروم ، وأظنه قال: « هل لك في نساء بني الأصفر ؟ فقال يا رسول الله: إني رجل لا أصبر عن النساء وإني أخاف الفتنة بنساء بني الأصفر ، فائذن لي ولا تفتني » ، وهذا الجد هو الذي تخلف عن بيعة الرضوان تحت الشجرة ، واستتر بجمل أحمر ، وجاء فيه الحديث : « إن كلهم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر » . فأنزل الله تعالى فيه: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } (التوبة: من الآية 49). يقول : إنه طلب القعود ليسلم من فتنة النساء ، فلا يفتتن بهن ، فيحتاج إلى الاحتراز من المحظور ومجاهدة نفسه عنه فيتعذب بذلك أو يواقعه فيأثم ، فإن من رأى الصور الجميلة وأحبها فإن لم يتمكن

منها إما لتحريم الشارع وإما للعجز عنها يعذب قلبه ، وإن قدر عليها وفعل المحظور هلك، وفي الحلال من ذلك من معالجة النساء ما فيه بلاء فهذا وجه قوله: { وَلَا تَفْتِنِّي } . قال الله تعالى: { أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } (التوبة: من الآية 49) . يقول نفس إعراضه عن الجهاد الواجب ونكوله عنه وضعف إيمانه ومرض قلبه الذي زين له ترك الجهاد : فتنة عظيمة قد سقط فيها ، فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته؟ والله يقول : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } (البقرة: من الآية 193) . فمن ترك القتال الذي أمر الله به لئلا تكون فتنة : فهو في الفتنة ساقط بما وقع فيه من ريب قلبه ومرض فؤاده، وتركه ما أمر الله به من الجهاد .

فتدبر هذا ، فإن هذا مقام خطر ، فإن الناس هنا ثلاثة أقسام : قسم يأمرون وينهون ويقاتلون ، طلباً لإزالة الفتنة التي زعموا ، ويكون فعلهم ذلك أعظم فتنة ، كالمقتتلين في الفتنة الواقعة بين الأمة . وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا ، لئلا يفتنوا ، وهم سقطوا في الفتنة ، وهذه الفتنة المذكورة في ( سورة براءة ) دخل فيها الافتتان بالصور الجميلة ، فإنها سبب نزول الآية ، وهذه حال كثير من المتدينين ، يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا ، لئلا يفتنوا بجنس الشهوات ، وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منه ، وإنما الواجب عليهم القيام بالواجب وترك المحظور ، وهما متلازمان ، وإنما تركوا ذلك لكون نفوسهم لا تطاوعهم إلا على فعلهما جميعاً أو تركهما جميعاً : مثل كثير ممن يحب الرئاسة أو المال وشهوات الغي ، فإنه إذا فعل ما وجب عليه من أمر ونهي وجهاد وإمارة ونحو ذلك فلابد أن يفعل شيئاً من المحظورات . فالواجب عليه أن ينظر أغلب الأمرين . فإن كان المأمور أعظم أجراً من ترك ذلك المحظور لم يترك

ذلك لما يخاف أن يقترن به ما هو دونه في المفسدة ، وإن كان ترك المحظور أعظم أجراً لم يفوت ذلك برجاء ثواب بفعل واجب يكون دون ذلك فذلك يكون بما يجتمع له من الأمرين من الحسنات والسيئات ، فهذا هذا ، وتفصيل ذلك يطول . وكل بشر على وجه الأرض فلابد له من أمر ونهي ، ولابد أن يأمر وينهى حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها ، إما بمعروف وإما بمنكر ، كما قال تعالى: { إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } (يوسف: من الآية 53). فإن الأمر هو طلب الفعل وإرادته ، والنهي طلب الترك وإرادته ، ولابد لكل حي من إرادة وطلب في نفسه يقتضي بهما فعل غيره إذا أمكن ذلك، فإن الإنسان حي يتحرك بإرادته، وبنو آدم لا يعيشوا إلا باجتماع بعضهم مع بعض ، وإذا اجتمع اثنان فصاعداً فلابد أن يكون بينهما ائتمار بأمر وتناه عن أمر ، ولهذا كان أقل الجماعة في الصلاة اثنين ، كما قيل : الاثنان فما فوقهما جماعة ، لكن لما كان ذلك اشتراكاً في مجرد الصلاة حصل باثنين أحدهما أمام والآخر مأموم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث وصاحبه : « إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما ، وليؤمكما أكبركما » وكان متقاربين في القراءة . وأما

الأمور العادية ففي السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحل لثلاثة يكونون في سفر إلا أمرو عليهم أحدهم » .

وإذا كان
الأمر والنهي من لوازم وجود بني آدم ، فمن لم يأمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله ، ويؤمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله ، وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله ، وإلا فلابد أن يأمر وينهى ، ويؤمر ويُنهى، إما بما يضاد ذلك ، وإما بما يشترك فيه الحق الذي أنزل الله بالباطل الذي لم ينزله الله . وإذا اتخذ ذلك ديناً ، كان ديناً مبتدعاً . وهذا كما أن كل بشر فإنه متحرك بإرادته همام حارث ، فمن لم تكن نيته صالحة وعمله عملاً صالحاً لوجه الله وإلا كان عملاً فاسداً أو لغير وجه الله ، وهو الباطل ، كما قال تعالى: { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } (الليل:4) . وهذه الأعمال كلها باطله . من جنس أعمال الكفار : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } (محمد:1) . وقال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } (النور:39). وقال: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا

عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } (الفرقان:23) . وقد أمر الله في كتابه بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر من المؤمنين ، كما قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (النساء:59) . و ( أولو الأمر ) أصحاب الأمر وذووه ، وهم الذين يأمرون الناس ، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام ، فلهذا كان أولو الأمر صنفين : العلماء والأمراء ، فإذا صلحوا صلح الناس ، وإذا فسدوا فسد الناس كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه للأحمسية لما سألته : ما بقاؤنا على هذا الأمر ؟ قال : ما استقامت لكم أئمتكم، ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان ، وكل من كان متبوعاً فإنه من أولي الأمر ، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله به ، وينهى عما نهى عنه ، وعلى كل واحد ممن عليه طاعته أن يطيعه في طاعة الله ، ولا يطيعه في معصية الله ، كما قال أبو

بكر الصديق رضي الله عنه حين تولى أمر المسلمين وخطبهم ، فقال في خطبته :أيها الناس : القوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق ، والضعيف فيكم القوي عندي حتى آخذ له الحق ، أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم .

فصل:
وإذا كانت جميع الحسنات لا بد فيها من شيئين : أن يراد بها وجه الله ، وأن تكون موافقة للشريعة ، فهذا في الأقوال والأفعال ، في الكلم الطيب ، والعمل الصالح ، في الأمور العلمية والأمور العبادية ، ولهذا ثبت في الصحيح عن النبي : « أن أول ثلاثة تسجر بهم جهنم : رجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن وأقرأه ليقول الناس : هو عالم وقارئ ، ورجل قاتل وجاهد ليقول الناس : هو شجاع وجريء ، ورجل تصدق وأعطى ليقول الناس : جواد سخي » .

فإن هؤلاء الثلاثة الذين يريدون الرياء والسمعة هم بإزاء الثلاثة الذين بعد النبيين من الصديقين والشهداء والصالحين ، فإن من تعلم العلم الذي بعث الله به رسله وعلمه لوجه الله كان صديقاً , ومن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وقتل كان شهيداً، ومن تصدق يبتغي بذلك وجه الله كان صالحاً ، ولهذا يسأل المفرط في ماله الرجعة وقت الموت ، كما قال ابن عباس : من أعطي مالاً فلم يحج منه ولم يزك سأل الرجعة وقت الموت ، وقرأ قوله تعالى : { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ } (المنافقون:10).

فهذه الأمور العلمية الكلامية يحتاج المخبر بها أن يكون ما يخبر به عن الله واليوم الآخر، وما كان وما يكون ، حقاً صواباً . وما يأمر به وينهى عنه كما جاءت به الرسل عن الله ، فهذا هو الصواب الموافق للسنة والشريعة ، المتبع لكتاب الله وسنة رسوله ، كما أن العبادات التي يتعبد العباد بها إذا كانت مما شرعه الله وأمر الله به ورسوله : كانت حقاً صواباً، موافقاً لما بعث الله به رسله ، وما لم يكن كذلك من القسمين كان من الباطل والبدع المضلة والجهل ، وإن كان يسميه من يسميه علوماً ومعقولات ، وعبادات ومجاهدات ، وأذواقاً ومقامات .
ويحتاج أيضاً أن يؤمر بذلك لأمر الله ، وينهى عنه لنهي الله ، ويخبر بما أخبر الله به ، لأنه حق وإيمان وهدى كما أخبرت به الرسل ، كما تحتاج العبادة أن يقصد بها وجه الله ، فإذا قيل ذلك لاتباع الهوى والحمية ، أو لإظهار العلم والفضيلة، أو لطلب السمعة والرياء : كان بمنزلة المقاتل شجاعة وحمية ورياء .

ومن هنا يتبين لك ما وقع فيه كثير من أهل العلم والمقال ، وأهل العبادة والحال ، فكثيراً ما يقول هؤلاء من الأقوال ما هو خلاف الكتاب والسنة ووفاقها ، وكثيراً ما يتعبد هؤلاء بعبادات لم يأمر الله بها ، بل قد نهى عنها ، أو ما يتضمن مشروعاً محظوراً ، وكثيراً ما يقاتل هؤلاء قتالاً مخالفاً للقتال المأمور به ، أو متضمناً لمأمور محظور .
ثم كل من الأقسام الثلاثة : المأمور ، والمحظور ، والمشتمل على الأمرين قد يكون لصاحبه نية حسنة ، وقد يكون متبعاً لهواه ، وقد يجتمع له هذا وهذا .
فهذه تسعة أقسام في هذه الأمور ، وفي الأموال المنفقة عليها من الأموال السلطانية ، الفيء وغيره ، والأموال الموقوفة ، والأموال الموصى بها والمنذورة ، وأنواع العطايا والصدقات والصلات ، وهذا كله من لبس الحق بالباطل ، وخلط عمل صالح وآخر سيئ .

والسيئ من ذلك قد يكون صاحبه مخطئاً أو ناسياً مغفوراً له كالمجتهد المخطئ الذي له أجر وخطؤه مغفور له ، وقد يكون صغيراً مكفراً باجتناب الكبائر ، وقد يكون مغفوراً بتوبة أو بحسنات تمحو السيئات ، أو مكفراً بمصائب الدنيا ونحو ذلك ، إلا أن دين الله الذي أنزل به كتبه وبعث به رسله ما تقدم من إرادة الله وحدة بالعمل الصالح ، وهذا هو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من أحد غيره ، قال تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (آل عمران:85). وقال تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }{ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } (آل عمران:18-19) .

والإسلام يجمع معنيين : أحدهما الاستسلام والانقياد ، فلا يكون متكبراً ، والثاني الإخلاص من قوله تعالى : { وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ } . فلا يكون مشركاً ، وهو أن يسلم العبد لله رب العالمين ، كما قال تعالى: { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ }{ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }{ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (البقرة:130-132) . وقال تعالى : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }{ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الأنعام:161-162) .

والإسلام يستعمل لازماً معدى بحرف اللام ، مثل ما ذكر في هذه الآيات ، ومثل قوله تعالى: { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } (الزمر:54) . ومثل قوله تعالى : { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (النمل: من الآية 44). ومثل قوله : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } (آل عمران:83). ومثل قوله : { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }{ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ } (الأنعام:71 -72).

ويستعمل متعدياً مقروناً بالإحسان ، كقوله تعالى: { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }{ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } (البقرة:111-112). وقوله: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } (النساء:125).
فقد أنكر أن يكون دين أحسن من هذا الدين ، وهو إسلام الوجه لله مع الإحسان ، وأخبر أن كل من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، أثبتت هذه الكلمة الجامعة والقضية العامة رداً لما زعم من زعمه أن لا يدخل الجنة إلا متهود أو متنصر .
وهذان الوصفان - وهما إسلام الوجه لله ، والإحسان - هما الأصلان المتقدمان ، وهما: كون العمل خالصاً لله ، صواباً موافقاً للسنة والشريعة ، وذلك أن إسلام الوجه لله هو متضمن للقصد والنية لله ، كما قال بعضهم :

أستغفر الله ذنباً لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل
وقد استعمل هنا أربعة ألفاظ: إسلام الوجه ، وإقامة الوجه ، كقوله تعالى : { وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } (الأعراف: من الآية 29) . وقوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } (الروم: من الآية 30). وتوجيه الوجه كقول الخليل : { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } . وكذلك كان النبي: يقول في دعاء الاستفتاح في صلاته : « وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين » . وفي الصحيحين عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يقول إذا أوى إلى فراشه : « اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك » .

فالوجه يتناول المتوجه والمتوجه إليه، ويتناول المتوجه نحوه كما يقال: أي وجه تريد ؟ أي: أي وجهة وناحية تقصد ، وذلك أنهما متلازمان ، فحيث توجه الإنسان توجه وجهه ، ووجه مستلزم لتوجهه ، وهذا في باطنه وظاهره جميعاً ، فهذه أربعة أمور ، والباطن هو الأصل، والظاهر هو الكمال والشعار فإذا توجه قلبه إلى شيء تبعه وجهه الظاهر ، فإذا كان العبد قصده ومراده وتوجهه إلى الله فهذا صلاح إرادته وقصده ، فإذا كان مع ذلك محسناً فقد اجتمع أن يكون عمله صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ، وهو قول عمر رضي الله عنه : اللهم اجعل عملي كله صالحاً واجعله لوجهك خالصاً ، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً , والعمل الصالح هو الإحسان ، وهو فعل الحسنات وهو ما أمر الله به ، والذي أمر الله به هو الذي شرعه الله ، وهو الموافق لسنة الله وسنة رسوله ، فقد أخبر الله تعالى أنه من أخلص قصده لله وكان محسناً في عمله فإنه مستحق للثواب سالم من العقاب .

ولهذا كان أئمة السلف يجمعون هذين الأصلين ، كقول الفضيل بن عياض في قوله تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } (الملك: من الآية 2) . قال : أخلصه وأصوبه ، فقيل : يا أبا علي ! ما أخلصه وأصوبه ؟ فقال : إن العمل إذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل ، وإذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً . والخالص : أن يكون لله ، والصواب : أن يكون على السنة.
وقد روى ابن شاهين واللالكائي عن سعيد بن جبير قال : لا يقبل قول وعمل إلا بنية ، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة ، ورويا عن الحسن البصري مثله ، ولفظه : " لا يصلح " مكان لا يقبل ، وهذا فيه رد على المرجئة الذين يجعلون مجرد القول كافياً ، فأخبر أنه لا بد من قول وعمل ، إذ الإيمان قول وعمل ، لا بد من هذين ، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع وبينا أن مجرد تصديق القلب واللسان مع البغض والاستكبار لا يكون إيماناً - باتفاق المؤمنين - حتى يقترن بالتصديق عمل .

وأصل العمل عمل القلب ، وهو الحب والتعظيم المنافي للبغض والاستكبار ، ثم قالوا: ولا يقبل قول وعمل إلا بنية ، وهذا ظاهر ، فإن القول والعمل إذا لم يكن خالصاً لله تعالى لم يقبله الله تعالى ، ثم قالوا : ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة ، وهي الشريعة ، وهي ما أمر الله به ورسوله لأن القول والعمل والنية الذين لا يكون مسنوناً مشروعاً قد أمر الله به: يكون بدعة ليس مما يحبه الله ، فلا يقبله الله ، ولا يصلح : مثل أعمال المشركين وأهل الكتاب .
ولفظ " السنة " في كلام السلف يتناول السنة في العبادات وفي الاعتقادات ، وإن كان كثير ممن صنف في السنة يقصدون الكلام في الاعتقادات ، وهذا كقول ابن مسعود وأبي بن كعب وأبي الدرداء رضي الله عنهم : اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة ، وأمثال ذلك .
والحمد لله رب العالمين وصلواته على محمد وآله الطاهرين وأصحابه أجمعين.

ج9 الي ج11. كتاب : المنتظم في تاريخ الملوك والأمم المؤلف : عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي أبو الفرج}ْ

ج9 الي ج11. ج9.   كتاب : المنتظم في تاريخ الملوك والأمم المؤلف : عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي أبو الفرج     همذان وكانت الغلبة لاصحا...